تنتشر في موريتانيا أزمة اقتصادية خانقة، جعلت كثيرا من المراقبين والكتاب والمدونين يتحدثون عن رأس النظام بشكل مريب، مستشهدين بما نشرته تقدمي، ونقلته عنها مواقع وصحف محلية من أن النظام الحالي يمتلك أغلب عقارات نواكشوط، كما أنه باع المدارس لنفسه، واستولى على مبالغ مالية ضخمة، تنشط هيئة الرحمة التكبرية –نسبة للسيدة الأولى- في استعادتها من فرنسا، ويأتي الأمر في ظل تصريحات لرئيس الاستخبارات الليبية السابق عبد الله السنوسي، قال فيها بأنه بيع من قبل موريتانيا لسلطات بلاده االمتصارعة.
غرق العزيزية والتكبرية في استغلال النفوذ لجمع المال، والعقارات لم يعد خافيا، وازداد حجمه، وتجلى في إفلاس كبريات مؤسسات البلد "اسنيم" الشركة الوطنية للحديد والمناجم، تلك الشركة التي تتخبط في المشاكل، واضرابات العمال، عاجزة عن الخروج من مظاهر الفشل، وهي التي استخدمت بعض أموالها من أجل إنقاذ مشاريع وطنية التزم خواص بإكمالها، وكان عليهم تحمل التزاماتهم القانونية بمنأى عن جيب الدولة.
تقدمي التي فضحت ممارسات النظام بصور حصرية اختفت منذ أسبوع، ربما بسبب القرصنة، وصار التساؤل عنها ظهورا واختفاءً يسيطر على نخبة البلد، التي عشقت تقدمي، وتصوفت في مفاتنها برغم وجود مواقع أخرى تعمل على فضح ممارسات الفساد، الممارسة من قبل نظام أبرز شعاراته "مكافحة الفساد"، وواقعه فساد وفساد وفساد ... ووووو ... و فساد ...
كثير من أساطين الدولة، ونافذيها يتحدثون عن ذكريات أليمة شاهدوها بأم العين عن الفساد، ويصرون إصرارا على أن العزيزية والتكبرية عطلا ماكينة الدولة، واستحوذا على ملياراتها، وهذا هو سر عذاب المواطن، وندرة السيولة، وهو سر الألم الرهيب لوطن ينزف، تنزف جراحه الملتهبة بشدة وغزارة، ويصر نظامه على أن لا يلتفت إلى الجراح، تلك الجراح الغائرة في الجسد الممدد دون حراك انتظارا للحظة ما، لحظة مجهولة من تشكلات الدولة الموريتانية.
وبرغم خروج الحزب الحاكم مدافعا عن العزيزية والتكبرية فإنه لم يستطع إنقاذ ماء وجه نظامه، لم يستطع تسويق الحوار، ولا استنهاض همم المبادرات، ولا حتى استئجار أقلام رصاص يحتاجها النظام، ولذا بدأت فعليا أحاديث تتناول إمكانية تضحية العزيزية والتكبرية برئيس الحزب الحاكم وبعض معاونيه، وهذا هو فعلا قمة الديكتاتورية التي وصفها ودافع عنها مكيافيليلي في كتابه "الأمير"، فالدكتاتور الناجح هو الذي يقدر في نهاية المطاف أن يلبس أقرب مقربيه جلباب نظامه المتسخ، ثم يذبحه على شرفات قصره، ويظهر للشعب بمظهر حق القوة، المدافع عن قوة الحق.
طبعا المبادرات الأهلية الداعمة للديكتاتور ليست صادقة، فهي تتكل على البهرجة الكاذبة، والمظاهر الخادعة، فلم تقدم للديكتاتور أي مظهر صادق من أجل تخفيف الحنق الشعبي عليه، وهكذا هي لم تستطع احتضان ولا تكوين مجموعة داعمة، أو مجموعة زيدانية -نسبة لزيدان البوق- دائمة النقيق، وبالتالي هي ذاتها تسهم في صلب الديكتاتور لبعض حوارييه، الذين فشلوا في جمع جوقة من حوله.
لكن الديكتاتور الصالب –ربما- تنشط مجموعات في مقبل الأيام من أجل محاكمته حالما تسنح الفرصة، فاستغلال النفوذ جريمة، واختلاس المال العام جريمة، وتضليل الرأي العام جريمة تكيف هي الأخرى، وتدجين القضاء يجد هو الآخر حالات يكيف فيها إلى جرائم جنائية، ولا شك سيجد المحيط الأسري والعائلي والأصهار مكانا في الاشتراك والمساهمة ليصلهم القضاء، وربما يجد المدونون والمطالبون بدعم حقوق الإنسان مدخلا لمحكمة لاهاي، من خلال تجويع شعب كامل، واخضاعه لظروف قسرية من خلال نهب كافة ممتلكاته، بل والتحضر بحسب بعض المواقع للفرار صوب دول وضع فيها رأس النظام ممتلكاته، وسيبحث فيها عن حصانة من المساءلة.
لقد وصلت الديموقراطية حدا مخيفا في موريتانيا، حتى صار الرأي العام الوطني يسأل عن جدوائية الوعي الوطني والدولي الواعي بحقيقة غياب الديموقراطية المحلية، وظهور الاستبداد، وانسداد أفق الحوار، ويعتبر ذلك الرأي العام بأن العزيزية والتكبرية هي نهاية التاريخ، والنفق المظلم الذي سيبتلع الكون، متناسين أنه لا أحد إن أمن الشعب يأمن مكر الله، ثم ما تنطوي عليه النعم المنهوبة من نقم سرعان ما تعلن عن نفسها، ولا تترك للحكام المستبدين من الأمر شيئا.
انظروا حال القذافي، وإن كان ليس بدرجة معنا، فقد كان برغم ديكتاتوريته يعيش في عهده الشعب الليبي رخاءً غير مسبوق، وما أخذ عليه هو حالة الحريات العامة في بلاده، وهنا العكس، فالأزمة أزمة غذاء ودواء وماء وسيولة، سيولة اعترف النظام نفسه بوجودها، والشعب لم يجدها، وانظروا زين العابدين بنعلي نهب وبنى بنية تحتية رائدة، وطور التعليم في بلاده، وطور السياحة، والطب، وفي نفس الوقت أطبق على الحريات، وداس الحقوق، ولكنه يوم الفرار كان يحلق عن دولة عصرية، أما هنا فالدولة رهينة محبسين، محبس الفقر، ومحبس أنها تتحول إلى تراحيل–ترحيل وترحيل وترحيل...- لا تتطور، في حين تصل عقاراتها بأمان-حسب ما رأينا في الإعلام- إلى يد العزيزية والتكبرية.
وفي ظل واقع كهذا كان من المفترض على الأقل التخلي عن مظهر واحد من مظاهر الفساد، وهو ما لم يحصل، فالدولة عمقت الدولة العميقة الخاصة بها، واستشرت الزبونية والفساد والمحسوبية، وأصبحت الدولة يبسط جانبها التنفيذي يده على القضاء، فساعة لا بد من محاكمة السنوسي، والقضاء عندنا سيقول كلمته، وعلى أساسها نتصرف، وفي الليلة الظلماء يرحل السنوسي بقضاء وقدر، وساعة تقال نيابة عامة كلها، ويكتب القضاة أنفسهم عن مأساة القضاء، ثم يتفاجأ الرأي العام بكتاب الضبط يشتكون شيئا من واقع الزبونية والتلاعب الحاصل في وزارة العدل، والمواطن مقهور مطحون.
إن من سمع بمحاكمات ليبزج،ونورنبرغ وطوكيو لكبار عتاة المجرمين، ورأى بنعلي هاربا، والقذافي مقتولا، وسيف الإسلام مسجونا، ومباركا وراء القضبان، من رأى ذلك لا يستهين بالتاريخ، واسمعوها مني.
وقبل ختامي لهذه العجالة، أود الإشارة إلى أن ظاهرة البرامج السياسية المتشبهة "بشاهد على العصر"، وإن كان أصحابها يعتقدون بأنها جميلة ومهمة، فهي في نظري –ومن أنا ؟ لا شيء- كذلك إلا أنها لا تعيش الواقع، وهي هروب منه للوراء، هي تقاعس لا وطني عن أحداث الساعة، وإن تابعها طيف من مشيخة البلد، فالشباب يريد الحاضر، الشباب يفضل الحديث عن يوميات اليوم، لا عـن أٌمْسِــ يات الأمس، وما يعاب على تلك البرامج هو:
- أولا الايغال في سب الرؤساء السابقين، والتقليل من شأنهم، في ظل مهادنة للعزيزية محسوسة خوفا وطمعا، والمداهنة المكشوفة في الأسلوبية "النعامية"؛
- عيب الطائعية -نموذجا- هو أمر أفلس أصحابه، فلا هو ينم عن شجاعة، ولا عن وطنية، ولا مواطنة، فالرجل تدافع عنه الأيام، وفي الحاضر الأليم ما يشغل عن ترهات الماضي، والمعارضات الشديدةللطائعية معروفة، ولن تزداد بالضرب تحت الحزام، والبسالة في مهاجمة نظام رحل؛
- كل الوطنيين القدماء مشكوك في وطنيتهم، وشهادتهم على العصر بلا قيمة مضافة، فالواقع الموروث منهم هو الراهن برئيسه ومرؤوسيه؛
- البرامج الحية أفضل من باهتات السينما، و"خدمة العللاء" خير من حكواتيات الساسة؛
- ليس لمعظم الحكواتيين المحليين من الساسة مذكرات مكتوبة تشهد لهم بحقيقة ما يقولونه، ولا تكفي الذاكرة .. لا تكفي ...
يتواصل....
د. دداه محمد الأمين الهادي
44533080
[email protected]