مأزق المشروع الصُّهيوني / ناصر حمدادوش/كاتب وصحفي جزائري في موقع "شروق اونلاين

31 يوليو, 2023 - 19:28
ناصر حمدادوش/كاتب وصحفي جزائري

لطالما قدّم الغربُ الكيانَ الصُّهيوني على أنه “واحة الديمقراطية في المنطقة”، وأنه “الاستثناء” من بين الدول المحيطة به، إلا أنَّ الصِّراع الداخلي والذي انفجر منذ 07 جانفي 2023م، وخرج إلى العلن على غير المشهد المعتاد، على خلفية الاحتجاجات على ما يُسمَّى “الإصلاحات القضائية” كشف اللِّثام عن أخطر أزمةٍ بنيويةٍ وهيكليةٍ يمرُّ بها هذا الكيانُ في تاريخه، والذي يتجاوز مجرد قشور الصِّراع التي تطفو على سَطح التصادم بين السُّلطة القضائية التي يسيطر عليها التيارُ اليساري العلماني وبين الحكومة الدينية اليمينية الأكثر تطرُّفًا في تاريخ إسرائيل، والتي شكَّلها نتنياهو في ديسمبر 2022م، لتصل إلى جذور الصِّراع بين الهويَّة والديمقراطية فيه.

تهدف هذه الإصلاحاتُ القضائية إلى تقليص صلاحيات المحكمة العليا وتقويض السُّلطة القضائية، مقابل تعزيز صلاحيات الحكومة والكنيست (البرلمان)، ومنها صلاحية تعيين القضاة، وهو ما عدّته المعارضة الإسرائيلية انقلابًا سياسيًّا وليس إصلاحًا قضائيًّا، لأنها تسعى –من دون معارضة المحاكم الصُّهيونية- إلى تعزيز الاستيطان في الضِّفة الغربية، وتهويد مدينة القدس، ومحو الوجود الفلسطيني فيها، وبالتالي تكريس هوية الدولة اليهودية، وهو ما يتصادم مع المقاربة الغربية لمعالجة هذا الصِّراع المعقَّد عن طريق حلِّ الدولتين وفق الشرعية الدولية، وبالتالي فهي تهديدٌ للطبيعة الديمقراطية للكيان، وتعزيزٌ لبُعده الديني المتطرِّف، ما فجَّر ثنائية الأزمة بين الهوية والديمقراطية، وفضح حقيقة ما تعرِّف به إسرائيلُ نفسَها بأنها “دولةٌ يهوديةٌ ديمقراطية”.

وتعتزم الحكومة الصُّهيوينة طرح 08 مشاريع قوانين لإحداث ما تدَّعيه “التوازن بين السُّلطات: التشريعية والتنفيذية والقضائية”، ومن أبرز هذه القوانين في خطَّتها ما يسمَّى “فقرة التغلُّب” التي ستمكِّن الحكومة والكنيست من تشريع القوانين وإصدار الأوامر السِّياسية والعسكرية والأمنية، وحرمان “المحكمة العليا” من أبرز صلاحياتها، والتي تسمَّى “معيار المعقولية”، أي إمكانية نظر القضاء في مدى معقولية قرارات الحكومة والبرلمان، والحكم بعدم دستوريتها، مع أنه لا يوجد لهذا الكيان الصُّهيوني دستورٌ منذ الإعلان عن قيامه سنة 1948م، بل ومنح الكنيست (البرلمان) “بند الاستثناء”، الذي يسمح له بإلغاء أحكام “المحكمة العليا” بالأغلبية البسيطة، وهو البُند الأكثر إثارةً في هذه الإصلاحات، وقد تمَّ التصويت على ذلك يوم الاثنين 24 جويلية 2023م بالقراءة الثانية والثالثة، بواقع 64 صوتًا من أصل 120 عضوًا، وهو ما يُعدُّ قانونًا نافذًا، كخطوةٍ أولى تنتهي بالإصلاح الجذري بإعادة هيكلة الجهاز القضائي.

كما تهدف هذه الإصلاحات إلى تغيير قانون الحصانة لأعضاء الكنيست والوزراء، فلا يواجِهون التحقيق والمحاكمة أثناء أداء مهامهم، وإلغاء بُند “الاحتيال وخيانة الأمانة” في القانون الجنائي، إذ يتحوَّل الموظَّفُ الحكومي إلى رجلٍ فوق القانون، وسيكون المستفيد الأول من ذلك هو “نتنياهو” نفسُه، والذي لا يزال تحت الملاحقة القضائية بتهم الفساد والرَّشوة والخيانة.

جذور الصِّراع بين الهوية والديمقراطية

للدكتور “صالح النعيمي” دراسةٌ تحت عنوان: “النُّخبة الإسرائيلية الجديدة.. دراسةٌ في أثر صعود التيار الديني على مراكز صُنْع القرار”، والتي صدرت عن مركز الجزيرة للدراسات سنة 2020م، ورصدت التحوُّلات الكبيرة التي وقعت على النُّخب الحاكمة في الكيان الصُّهيوني، إذْ كانت النُّخبة العلمانية من أصولٍ غربيةٍ هي المسيطرة على مراكز صناعة القرار الصُّهيوني، والتي بسطت نفوذها في المجال السِّياسي والعسكري والقضائي والإعلامي والأكاديمي، إلا أنه وقعت تحوُّلاتٌ جذرية بصعود التيار الديني والقومي المتطرِّف من أصولٍ شرقيةٍ، وحيازته مكانةً متقدمةً في التمثيل، واحتلاله مواقعَ حسَّاسةً في دوائر النفوذ، واختراقه لمراكز الثقل في المجتمع والدولة.

ومن الدراسات السَّابقة التي أُشِير إليها فيها: كتاب “القائد الإلهي.. إعادة صياغة الجيش في إسرائيل” للكاتب: إيجيل ليفي، الصادر سنة 2015م، والذي رصد فيه تنامي تمثيل أتباع التيار الديني القومي في المواقع القيادية داخل الجيش الصُّهيوني بشكلٍ يفوق تمثيلهم السُّكاني، وكتاب: “النُّخبة الحاخامية في التيار الديني الصُّهيوني بعد تنفيذ خطة فك الارتباط” للكاتب: يتسحاك جايجر، الصادر سنة 2010م، والذي يؤكِّد على تعاظم الدور السِّياسي للنُّخبة الدينية من خلال تصدِّيها لمشاريع التسوية، وهيمنة نِتَاجها الفقهي لإثبات يهودية الدولة على “الأرض اليهودية” المزعومة، وخاصة بعد الانسحاب الصُّهيوني من قطاع غزة سنة 2005م.

يعتقد التيار الديني والقومي المتطرِّف بأنَّ اليساريين والليبراليين الخاسرين في الانتخابات مستمرون في السيطرة على المحاكم والجهاز البيروقراطي الإداري، وهو ما يشكِّل في نظرهم “دولةً عميقة” متحكِّمة، وهي عبارةٌ عن شبكاتٍ سريةٍ من الإداريين المعيَّنين، يعملون خارج الأطر التقليدية للحكومة، ولديهم القدرة على تقويض عمل المنتخَبين، والتحكُّم في السِّياسيين والمشرِّعين، وهو ما دفع بأحد الصَّحفيين المقرَّبين من “نتنياهو” للتساؤل: لماذا تصوِّت لليمين وتحصُل على اليسار؟

إنَّ هذه التحوُّلات تعمل على تعزيز القيم الدينية اليهودية في المجتمع الإسرائيلي والسِّياسة الصُّهيونية، وتركِّز على التعليم الديني والخدمة الدينية والتجنيد العسكري وتوجيه الرأي العام والتعبئة العامة بتلك الخلفية الإيديولوجية.

هذه التحوُّلات العميقة في المجتمع الصُّهيوني تمثِّل جذور الانقسام والصِّراع فيه، وما معركة “الإصلاحات القضائية” إلا مظهرٌ من مظاهر حالة التفكُّك والتدمير الذاتي عبر صراع الهوية التي يمثِّلها التيار الديني المتصاعد والمتغلِّب الآن، وبين الديمقراطية التي يمثِّلها التيارُ العلماني اليساري الغربي.

يعتقد التيار الديني والقومي المتطرِّف بأنَّ اليساريين والليبراليين الخاسرين في الانتخابات مستمرون في السيطرة على المحاكم والجهاز البيروقراطي الإداري، وهو ما يشكِّل في نظرهم “دولةً عميقة” متحكِّمة، وهي عبارةٌ عن شبكاتٍ سريةٍ من الإداريين المعيَّنين، يعملون خارج الأطر التقليدية للحكومة، ولديهم القدرة على تقويض عمل المنتخَبين، والتحكُّم في السِّياسيين والمشرِّعين، وهو ما دفع بأحد الصَّحفيين المقرَّبين من “نتنياهو” للتساؤل: لماذا تصوِّت لليمين وتحصُل على اليسار؟.

وبالرَّغم من تقدُّم اليمين الديني المتطرِّف في المجتمع الصُّهيوني خلال العقود الماضية، وتشكيله للحكومات عدَّة مرَّاتٍ، إلا أنه عجز عن السَّيطرة على الحكم، وذلك بسبب النُّفوذ المستمر الذي يتمتع به التيارُ العلماني اليساري والليبرالي خارج الحكومة والكنيست، أي التموقع في الإدارة والإعلام والقضاء والمؤسَّسات الاقتصادية والمجتمعية.

مستقبل المشروع الصُّهيوني

في الوقت الذي اعتبر فيه وزير الأمن القومي الصُّهيوني “بن غفير” –وهو من أكابر مجرمي الصَّهاينة الأكثر تطرُّفًا في الحكومة– إقرار الكنيست لقانون “الحدِّ من المعقولية” أنَّ إسرائيل قد أصبحت أكثر ديمقراطية وأكثر يهودية، اعتبرت أمريكا هذه الإصلاحات انقسامية، كما بدأ التهديد المبطّن لها بالحديث عن قطع المساعدات العسكرية، وتغيير النَّبرة المتبادلة وغير المعتادة بينهما، ورأت المعارضة الصُّهيونية أنَّ هذه الإصلاحات – بإضعاف السُّلطة القضائية وعلى رأسها “المحكمة العليا” وعدم الفصل بين السُّلطات- هو تقويضٌ لأسس الديمقراطية الرأسمالية، وفسحٌ للمجال أمام هيمنة التيارات الدينية المتطرِّفة الموغلة في إعادة تشكيل هوية الدولة، وهو تحوُّلٌ من “الديمقراطية” إلى “الديكتاتورية” و”الثيوقراطية”، ممَّا فتح المجال لتوسُّع دائرة العصيان المدني، برفض الخدمة في الجيش، وفي قطاعاتٍ حيوية أخرى، والتهديد بالإضراب العام، وهروب الاستثمارات والرأسمال إلى الخارج، والإغلاق الكلِّي للاقتصاد، بينما حذَّر الرئيس الصُّهيوني من نقطة اللاَّ عودة في هذه الأزمة، والتي يعتقد أنها تدمِّر إسرائيل من الداخل، وتفتح الباب على صراعاتٍ تاريخية عميقة، ستنتهي لا محالة إلى حربٍ أهلية، وهي نفس المخاوف الجدِّية التي عبَّر عنها وزيرُ الحرب الصُّهيوني السَّابق “بيني غانس”، وهي الخشية من اندلاع حربٍ أهلية تنتهي بتفكُّك إسرائيل من الداخل، خاصة بعد إصرار “بن غفير” على تشكيل قوات “الحرس الوطني” خاضعةً له ومنفصلةً عن الشُّرطة، اعتبرته أوساطٌ إعلامية وعلى رأسها صحيفة “هآرتس” “ميليشيات”، وهي تجهيزٌ لعتاد الحرب الأهلية، ووضعها في يد أكثر أعضاء حكومة “نتنياهو” تطرُّفًا.

ويرى محلِّلون بأنَّ إسرائيل قبل هذه المعركة القضائية ليست هي نفسها التي ستكون بعدها، وأنه مهما كانت نتيجة هذه المعركة فإنه قد وقع شرخٌ عميق وانقسامٌ حادٌّ داخل الطبقة السِّياسية ومؤسَّسات الدولة والمجتمع الصُّهيوني وحتى على مستوى يهود العالم يصعب استدراكه، وأنها قد دخلت أزمةً غير مسبوقةٍ في تاريخها، وهو ما يؤكِّد أنَّ المشروع الصُّهيوني قد دخل منعرجًا خطيرًا ومصيريًّا، ستكون آثارُه واضحةً على مستقبل الصِّراع الوجودي معه؟