عالمنا الأزرق.. طفل صيني يتحكم بالعالم الافتراضي

9 أكتوبر, 2021 - 21:33

أثارت انتباهي اليوم صورة شخص مخفي الوجه بواسطة صورة تمثل شعار الفيس بوك الأزرق، الأمر بدا طريفًا ومضحكًا، الجميع عقب على الصورة من باب المزاح، لكن الأمر أخطر من ذلك بكثير.

لقد استطاعت وسائل الاتصال الاجتماعية أن تجعل منا كائنات ألكترونية خالية من المشاعر والعواطف والأحاسيس، وربما كان للفيس بوك الأثر الأكبر مقارنة ببقية وسائل الاتصال الأخرى.

فأصبح العزاء يتم من خلال كلمات خالية من مشاعر العزاء نكبسها على أزرار لتقوم بالمهمة، ثم ما نلبث أن نصفّ مجموعة من الأحرف لتشكل كلمات للمباركة بقدوم مولود إلى الحياة أو بتهنئة

 لزواج أو خطبة أو حفلة تخرج، كلها كلمات لا تحمل ذرة من المشاعر. فنحن أناس لم تعد ألستنا تنطق بالكلمات، حتى وريد قلبنا لم يعد يرتبط بالقلم حينما نكتب، بل كل كلماتنا جامدة صماء ألكترونية.

 نقلب في الفيس بوك من صفحة إلى أخرى فننتقل من فرح إلى عزاء، من مولد إلى موت، من حفلة إلى بيت عزاء شهيد.

فأية أمراض نفسية ستطولنا ونحن نتقلب ألف مرة خلال فترة زمنية قد لا تتعدى الدقائق بين مشاعر وأحاسيس وعواطف متناقضة؟!

في صفحاتنا الخاصة في الفيس بوك نسعد بآلاف الأصدقاء والمتابعين، فنحن النجوم المتلألئة في الفضاء الأزرق، نحن المثاليون المنزهون عن الخطأ، نحن الملائكة التي تمشي على الأرض، نحن

 الرواة والكتاب والشعراء، نحن الفلاطحة، نحن المصلحون الاجتماعيون، نحن الشيوخ والمفتون، نحن كل شيء من وراء شاشة صماء، لكن وراء هذا العالم الأزرق نحن سراب، لقد تكشفت حقيقتنا حينما انقطعت وسائل الاتصال الاجتماعية عن الخدمة لفترة لا تتجاوز الست ساعات.

ست ساعات قلبت موازيننا، أصبح كل فرد فينا تائهًا، يبحث عن وجهه الأزرق ليجمل ملامحه، يبحث عن قناعه ليخفي عيوبه.

وفي هذا التوهان وجدنا أنفسنا مجردين من الأصدقاء الذين اختفوا من مجرد اختفاء خدمة ألكترونية، فقد تحولت الصداقات إلى شاشة فارغة إلا من انتظارنا.

لم ينج من تلك الصدمة الألكترونية سوى أولئك الذين لم يسمحوا لذلك الوجه الأزرق أن يغطي ملامحهم، فهناك في الحديقة كانت إحدى السيدات تعتني بالورود وتراقب نموها يومًا بعد يوم، وفي

 مكان آخر كانت الأم تدرس أبنائها وتتأكد من إتمامهم لواجباتهم، وهناك الأب الذي كان يقضي وقته مع زوجته، يستعيد معها ذكريات زواجهما، وبناء أسرتهما بكل سعادة، وهناك الرجل الذي كان يتفنن في عمل المعجنات ليفاجئ أسرته بصنيع يديه.

 أصحاب القلوب الدافئة والأوقات المملوءة بالفرح، لم يسترع انتباههم غياب الشاشة الزرقاء،  لم يعلموا عن هذا الانقطاع إلا من خلال نشرات الاخبار، فأي جنة تضاهي جناتهم؟ وأي فرح يساوي

 فرحهم؟

وعلى الجانب الآخر، فقد مني مؤسس الفيس بوك؛ مارك زوجربيرغ بخسارة مادية تقدر بسبعة بلايين من الدولارات خلال ساعات الخلل القليلة، ليشمت به بعض الشامتين ممن اختفت منشوراتهم من الفيس

 بوك لقولهم كلمة الحق.

وكما دومًا فقد كان للإشاعات نصيبها، إذ عزى البعض الخلل إلى اختراق طفل صيني لهذه المواقع، وبدأت التعقيبات المضحك منها والمبكي في الانتشار، فهناك من قال بأن الصين تجتاح العالم،

 وهناك من قال أن العالم يتحكم به طفل، وهناك من عقب بالقول: أنظروا إلى أين وصل العالم ونحن ما زلنا في خصاماتنا العقيمة.

أما عن نفسي في هذه الفترة فقد وقف الحظ بجانبي، إذ لم أقع فريسة لهذا الانقطاع ولم أعاني هذا التيه، فقد وجدت مؤخرًا أن وسائل الاتصالات هذه تلتهم الكثير من وقتي دون وعيي، وأنني

 قد التحقت بالكثير من الواجبات، لهذا كنت قد قررت قبل هذا العطل بأسابيع أن أقنن استخدام هذه الوسائل وبالتحديد الفيس بوك، ووجدتني قد أنجزت العديد من الأمور التي كنت أسوفها، وبهذا لم ألحظ انقطاع الفيس بوك بالشكل الذي يجعلني تائهة قابعة بين زوايا الحيرة.

ولعل في هذا الانقطاع عبرة لمن يعتبر، فلا تسمحوا لهذه الألكترونيات أن تجعل منكم أرقاما خالية المشاعر، ولا تجعلوا صداقتكم من خلف شاشات صماء، فأنها وبلا شك ما هي إلا صداقات وهمية،

 ستنتهي بضغطة زر في يوم ما إلا ما ندر منها.

هناء عبيد