الانتصار المدوّي الذي حققته حركة طالبان، بعد عشرين عاماً من المقاومة، على الولايات المتحدة وحلفائها، واضطرار الأمريكان للخروج المرتبك اللاهث من أفغانستان، تاركين نظام الحكم الذي دعموه لسنوات طوال يتهاوى كما تتهاوى أوراق الخريف في مشهد تاريخي مذهل؛ هو انتصار يستحق أن يُدرس كتجربة متميزة من تجارب العمل المقاوم والتحرر من الاستعمار وأذنابه، وأحد المحطات التاريخية المهمة في القرن الحادي والعشرين. مهما حاول الإعلام الغربي، المهيمن عالمياً، أن يُخفف من وقع الهزيمة، فإن مجرد طرح الحقائق الموضوعية المدعمة بالإحصاءات كفيل بكشف الغطاء عن حالات الإيهام التي يحاول السياسيون الغربيون والعديد من الأدوات الإعلامية تقديمها. عشرون سنة من الاحتلال الأمريكي المدعوم بقوى كبرى تشارك في حلف النيتو، فشلت في فرض نموذجها وفي تغيير الوجه الحقيقي لأفغانستان؛ وفشلت في كسر شوكة حركة مقاومة تملك إمكانات بسيطة لكنها ملتحمة مع شعبها، كما فشلت في إنشاء منظومة سياسية وبنية “دولة عميقة” تتساوى أو تتماهى مع المصالح الغربية. وذهب ما يزيد عن تريليون دولار (ألف مليار) أنفقته أمريكا أدراج الرياح، وهو مبلغ هائل يشير إلى مدى الاستنزاف والإنهاك الذي عانته أمريكا، إذ إن متوسط الإنفاق السنوي الأمريكي على مشروعها في أفغانستان كان نحو خمسين مليار دولار، وهو ما يوازي ميزانيات عسكرية سنوية لقوى عالمية كبيرة (مقارب للميزانية العسكرية البريطانية والعسكرية الفرنسية، وأعلى من الميزانية العسكرية الألمانية)، كما يزيد عن 13 ضعف الدعم السنوي المقدم للكيان الصهيوني. ودرّبت أمريكا وحلفاؤها جيشاً من نحو 300 ألف عسكري، تهاوى سريعاً مع اقتراب الخروج الأمريكي من أفغانستان. وبالرغم من “الجعجعة” الإعلامية، والحديث عن الديمقراطية والشفافية، والدولة الحديثة، فإن النظام السياسي الذي رعته الولايات المتحدة كان أحد أفسد الأنظمة في العالم؛ ويكفي أن نعلم أن المؤشر العالمي لمدركات الفساد لسنة 2020 يضع أفغانستان في الترتيب 173 من أصل 179 بلداً. والإعلام الذي يركز على المخاوف من طالبان وسلوكها المحتمل؛ لا يكلف نفسه عناء التفسير الموضوعي لنجاح طالبان، بعد عشرين سنة من الحرب القاسية والقذرة، ومن التشويه العالمي والمحلي الممنهج لطالبان ومقاومتها. كما لا يكلف نفسه طرح المسؤولية القانونية والأخلاقية عن مقتل نحو120 ألفاً من المدنيين الأفغان الذين راحوا ضحية التدخل العسكري الأمريكي وحلفائه. وحتى مشاهد إجلاء الأمريكان والمتعاونين (والعملاء) من مطار كابل، لم تكن مجرد “حالة إنسانية” كما يجري تصويرها؛ وإنما يجب أن يُستصحب مع هذه الصورة حالة التسامح التي قدمتها طالبان، وحالة التعالي عن الجراح؛ في وجه من قاتلوها، وأعانوا أعداءها، وكانوا جزءاً من منظومة الفساد التي انهارت بالخروج الأمريكي، مع ملاحظة أن كل الأنظمة الثورية تملك حق محاسبة مواطنيها على ما جنته أيديهم بعد الاستقلال والتحرير. أما الطريقة البئيسة والمهينة التي شهدتها طوابير “الهاربين” فهي ما يجب أن يحاسب عليه الطرف الأمريكي وليس طالبان. * * * لقد نجحت طالبان لأن رؤيتها ورسالتها وبوصلتها كانت واضحة لم تتغير، ولم تتلجلج في هويتها الإسلامية، ولا في مقاومة الاحتلال، ولا في طريقة التعامل مع الحكومة التي نشأت في رعاية الاحتلال. ونجحت طالبان لأنها ظلت ملتحمة بالشعب الأفغاني وهويته وتراثه وحياته اليومية، ولم تكن بحاجة إلى الإسراف أو الاستغراق في المظاهر البيروقراطية والنفقات الإعلامية والوفود والسفارات والبعثات الخارجية، حيث أخذت منها فقط ما يتناسب مع ضرورات العمل، وما يتناسب مع قطف الثمار عند اقتراب الانتصار. لم تكن بحاجة لشكليات وديكورات الدولة “الرأسمالية” المسماة “حديثة”، لتبدو مقبولة للآخرين؛ ولا لإنشاء مظاهر مصطنعة من “الرفاه تحت الاحتلال” كما يفعل البعض (مثل منظومة السلطة الفلسطينية وقيادتها). ونجحت طالبان لأنها لم تكن تعاني من ضغط الوقت ومرور الزمن، ولم تكن تعاني من وجود قيادات مسكونة بالظهور الإعلامي ولا بالرمزية الشخصية، ولا باللهاث حول تحقيق منجزات (أي منجزات) مهما كانت ضئيلة، لتقوم بالنفخ فيها وتضخيمها، لتظل في دائرة الضوء كما يفعل آخرون. ونجحت طالبان لأنها استفادت من خبرة السنوات الماضية في تطوير إمكاناتها السياسية والقيادية؛ فقدمت نموذجاً صلباً عندما تعلق الأمر بخروج قوات الاحتلال الأمريكي وحلفائه، وعندما تعلق الأمر بطريقة التعامل مع الحكومة التي نشأت في ظل الاحتلال. وقدمت في المقابل نموذجاً منفتحاً ومرناً في استيعاب كافة مكونات الشعب الأفغاني، وفي تبديد المخاوف تجاهها من خلال إصدار العفو العام حتى عن قوات الجيش والأمن الأفغاني، وعن رجال النظام السابق. وهي الآن تسعى إلى محاولة تشكيل حكومة تستوعب الشرائح والقوى الأفغانية المختلفة. كما أبدت مرونة أوسع في التعامل مع قضايا التعليم والمرأة وغيرها من المسائل التي يثيرها الإعلام الغربي. وأبدت طالبان انفتاحاً سياسياً على البيئة الإقليمية والدولية، وقدمت طمأنة لدول الجوار بما فيها الصين وروسيا والهند وإيران وباكستان… ولذلك، فإن الخروج الأمريكي لا يبدو مرتبطاً بأي صفقة مع طالبان، ولكنه ثمرة مقاومة لهذه الحركة ضد الاحتلال؛ خصوصاً أن التقارير الأمريكية نفسها كانت تشير إلى معضلة بقائها في أفغانستان وضرورة الانسحاب قبل أكثر من عشر سنوات. كما أن ترامب بالرغم من غروره وعجرفته وتطرفه هو الذي اضطرت إدارته لبدء التفاوض مع طالبان (في الدوحة) بالرغم من تصنيفها كحركة إرهابية؛ بعد أن فرضت نفسها فرضاً وتمكنت من السيطرة على نحو ثلثي الأرض الأفغانية. أما الانسحاب الأمريكي الأخير وسقوط الحكومة فقد سبقته سيطرة طالبان على أكثر من 80 في المئة من الأرض، ولم يبق أمامها سوى السيطرة على مراكز الولايات. من ناحية أخرى، فلعل أمريكا والقوى الكبرى وتلك التي لها مصالحها في أفغانستان ترى في استلام طالبان للحكم عملية “توريط” تؤدي إلى مزيد من “عقلنة” وواقعية طالبان؛ وتجبر طالبان على معالجة الملفات المعقدة المتعلقة بالجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والتعليمية، والتي ستكون فيها تحت المحك والاختبار أمام الشعب الأفغاني، خصوصاً مع ما قد يتطلبه ذلك من إمكانات هائلة وربما الدخول في علاقات اقتصادية وقروض واحتياج خبرات خارجية، قد تفتح المجال للغرب وللقوى الإقليمية للعودة من “الشباك”، وهو ما قد تراهن عليه أمريكا وحلفاؤها.. بالتأكيد، فإن أمام طالبان تحديات هائلة واستحقاقات كبرى؛ ولعلها تجد في تحديات تقديم النموذج الإسلامي المعاصر، وتحديت التنمية والنهضة، وبناء العلاقات الإقليمية والدولية المتوازنة.. تحديات لا تقل (إن لم تَفُقْ) تلك التحديات التي واجهتها في المقاومة والتحرير. وهو ما على طالبان التعامل معه بحذر وحزم وحكمة، مع ما تتطلبه المرحلة من إبداع وانفتاح واستيعاب لقوى وطاقات الشعب الأفغاني والأمة المسلمة. بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات