"هنّ أعظم شأناً من الرجال". هكذا وصف الرحالة ابن بطوطة نساء مدينة ولاتة التاريخية، الواقعة في شرق ما أصبح يسمى موريتانيا، وذلك من ضمن ما كتب عن رحلته إلى المدينة. وتظهر في ما كتب الرحالة الشهير الذي جال في العالم، حالة من الصدمة من واقع المرأة، وتحرّرها، وحضورها في مجتمعها، ونمط عيش الناس في تلك البقعة، وحالة من الاستغراب تسيطر على الرحالة القادم، على ما يبدو، من مجتمع أكثر "محافظة".
نظرة ابن بطوطة تلك، وغيره، تجعلُ البعضَ ينظر إلى مجتمع البيظان، على أنه مجتمع أمومي، وللمرأة فيه مكانة مهمّة، وأساسية، قد تكون أكثر مركزيّة داخل العائلة من مثيلاتها العربيات. ويقدم أصحاب هذا الرأي حججهم لتأكيد رأيهم. لكن هناك أيضاً أوجهاً أخرى للمشهد، تظهر أن ذلك الحكم ليس مطلقاً، بل هو أقرب إلى المغالطة، وأن النساء ضحية مجتمع ذكوري، ووضعيتهن ليست أفضل من بقية النساء العربيات، ولهذا الرأي مناصرون، ولهم حججهم أيضاً.
بين هذا وذاك، تبقى وضعية المرأة في المجتمع البيظانيّ، جدلية، وحَرِيَّةً بالبحث المعمّق. فهو مجتمع غني بالتفاصيل، ومتنوع، ومتعدد المشارب، ومتباين الطباع، ومتغير عبر الأزمنة.
في ما يلي، محاولة لتقديم نماذج عن نساء من هذا المجتمع، برزن تاريخياً في مجالات لم تكن للمرأة فيها الحظوة الأكبر، وهي مجالات التصوف، والعلوم الشرعية، والقيادة المجتمعية، ما جعلهن حقاً أعظم شأناً من الرجال.
آمنة بنت يوسف... المرأة التي قادت مجتمعاً بكامله
تُعد آمنة بنت يوسف من أبرز النماذج القيادية النسائية في تاريخ مجتمع البيظان، كسيّدة مجتمع، وشيخة لها الكثير من المريدين. ولدت آمنة في العقد السادس من القرن التاسع عشر، وتوفيت عام 1927 ميلادي. ولأن مجتمع البيظان كثير الترحال، والنزوح، فقد نزح أجدادها من آل محمد ولد أحمد، من منطقة تگانت وسط موريتانيا، إلى منطقة آدرار في الشمال، وتصاهروا مع سكان المنطقة، ليستقر بهم الحال في إينشيري، ثم في منطقة الساحل التي استقر فيها والدها يوسف، حيث ولدت. وأمها هي أمات بنت أعلي ولد لعميم، ونشأت آمنة بين أخوالها.
وفي حديث لرصيف22، قال حفيدها الإعلامي محمد عبد الله ولد محمد: "انتبه أهلها، ومجاوروها، إلى صلاحها، وإلى أنه سيكون لها شأن عظيم، وهي لا تزال طفلة صغيرة، إذ كانت عازفة عن اللهو بين قريناتها في الحي، وكان أصلها من بيت العزّ والإمارة، مروراً بأحياء الرفعة، والشهامة، ونزولاً في مواطن الفضل، والمعرفة، والكرم. وعُرفت منذ صغرها بالتعلق بالمصطفى صلى الله عليه وسلم، وبكل من ينتمي إلى دوحة الشرف، حتى ولو كان مدّعياً. ومما يروى عنها، أن أحدهم نزل في بيتها، وادّعى أنه شريف، فأجلّته أيّما إجلال، فأسرّ لها أحدهم أن الرجل ليس من الشرفاء، فنهرته قائلةً: أعرف أصله وفصله، ولكنه أحاط نفسه بهذا الادّعاء".
ومع مرور الزمن، أصبحت شيخة لها صيتها، وكانت بنت يوسف مولعة بالضعفاء، والمظلومين، والفقراء، يقول المتحدث، ويضيف: "كانت كلما علمت بأسرة فقيرة، أوفدت إليها من يحملها إلى حيّها، لتصبح جزءاً من الحي، وتعيش مثلما يعيش أبناؤها، وأقاربها. وكانت رحمها الله تنتقل من أرض إلى أرض، لرفع الظلم عن المظلومين، وتهتم بحل المشكلات كلها التي تتعلق بالضعفاء، وكانت علاقاتها قوية بعلماء عصرها، وبالأمراء، وغيرهم من أهل النفوذ".
تكثر الأحاديث والحكايات حولها، ويحفظ مريدوها الكثير من قصصها مع قادة المجتمع الذين عاصروها، والتي تظهر حضورها، وقوتها، وتأثيرها، وقال محمد عبد الله: "مما يرويه بعض مريديها، أن أحد الضعفاء اشتكى إليها ذات مرة، أنه تعرض لظلم في منطقة الگبلة، فسافرت من منطقة في أقصى أطراف إينشيري الشمالية الغربية، قاصدةً منطقة قرب المذردرة، ونزلت عند أحد أمراء الترارزة، فرحب بها، وأجلّها، ورفع الظلم عن المظلوم الذي جاءت من أجله. وبعد فترة أرادت السفر عائدةً إلى حيها، فذهب الأمير لوداعها، وقبل عودته سألها قائلاً، وهو معروف بعدالته: هل تحبينني، فردت عليه بـ"لا"، فتفاجأ الأمير قائلاً: لماذا؟، فقالت له: لاحظت أنك لا تتقي المعاصي، خصوصاً ما يتعلق منها بالنساء، وأنا أعلم أن من أحبَّ قوماً، حُشِر معهم، ولا أحب أن أحشر معك في زمرة العصاة، فقال لها: وإن أقلعت عن تلك العادة ما عدا النظرة الأولى التي هي لي؟ فقالت له: أفلحت إن لم تتجاوزها، ولك حبي إن تأكدت من ذلك".
وواصل سرد حكايتها مع الأمير: "ويقال إنها بعد وصولها إلى حيها في منطقة الساحل، علمت بوفاة ذلك الأمير، فعادت إلى حيه إيفاء بالعهد معه، فنزلت في المقبرة التي دفن فيها، وقضت أياماً تدعو له عند رأسه".
وحكى قصصاً أخرى في السياق نفسه، فقال: "معروفة قصتها الشهيرة مع الشيخين محمد فال ولد متالي التندغي، والشيخ محمد المامي الباريكي، اللذيْن كانت بينهما مشكلة تتعلق بالنوازل الفقهية، فمشت بينهما حتى عادت المياه إلى مجاريها".
كانت بنت يوسف تعالج المرضى، وتواسيهم. ومما يرويه عنها حفيدها، قصتها مع أحد أبناء العالم الجليل محمد ولد محمد سالم التي يتناقلها أحفاده أيضاً، "إذ رقته من مرض عضال ألمّ به، بعد أن رفع الأطباء عنه أيديهم، فسافرت هي إليه في منطقة تيرس، وبعد أن شُفي من دائه، أمرت أبناءه بألا يحدّثوا أحداً بما حصل، وأن لا يذكروا أنها وراء شفائه".
وأضاف حفيدها قائلاً إن صيتها جعل الناس يجتمعون للسكن حول بيتها: "حي آمنة بنت يوسف، كان يضم قبائل شتى، من أهل المنطقة، وسُمى باسمها، حي الإصلاح والتعليم، حيث كانت مدارسها التعليمية التي اعتمدت فيها على علماء أفذاذ من خيرة علماء زمانهم، وكان الكثيرون من علماء الساحل من تلاميذها، وكان مجلسها نموذجاً بين "المحاضر" الأخرى، حيث تتنوع معارفها، وكانت العلوم الأخلاقية مادة رئيسية بين موادها، ويتحدث الكثيرون عن حرصها على إيواء الطلاب، صغاراً وكباراً، وتعويض أوليائهم بالمال، ليتفرغوا للدراسة".
ووصفها معاصروها بأنها كانت امرأة بمثابة الأم، نظراً إلى دورها في الاهتمام بأمور العامة، ولسياستها في ما يتعلق بتسيير الحياة اليومية بتفاصيلها كلها، بدءاً بعيش الناس في حيها، وجلب الماء لهم، ودراسة أبنائهم، وحتى الزواج، ويقول حفيدها:" كانت كلما علمت بخلاف بين أسرتين، قرّبت بينهما عن طريق المصاهرة، فيُدفن الخلاف بينهما إلى الأبد، وشمل عطفها وحنانها مئات الأسر ممن لا حول لهم ولا قوة".
لالة عيشة منت الأزرگ... شيخة الصحراء
للتصوف وزواياه بالغ الحضور والتأثير في المجتمع البيظاني، وهذا حال أهله، وهو حقل لم يسلم من حضور المرأة، ومن ضمن النساء اللواتي خلد ذكرهن في عالم التصوف، ومدارات الحضرات الصوفية، الشيخة لالة عيشة بنت سيدي المختار بن سيدي الأمين (الأزرگ)، التي كان لها حضورها المميز في الحضرة المختارية الكنتية، في أزواد، وتقع اليوم في دولة مالي، وهي زوجة الشيخ سيد المختار، وشيخة صوفية لها إسهامها الكبير في تلك الحضرة.
ويُرجح أن تكون الشيخة قد ولدت في القرن الثامن عشر (1160هـ ـ 1747م)، في عام شهير في التاريخ بعام البطحاء، وتوفيت سنة 1810 ميلادية.
وتحدث عنها بإسهاب ابنها الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيد المختار (1765-1826 م)، وهو أحد أبرز مشايخ التصوف في الساحل، والصحراء، كما تحدث عنها زوجها الشيخ سيد المختار الكنتي (1142هـ-1226هـ)، الملقب بـ"شيخ المشايخ"، إذ وصفها بـ"الولاية"، ويقول عنها ابنها في كتابه الطرائف والتلائد: "كانت الشيخة-رضوان الله عليها- ممن لاحت عليهم لوائح الولاية في صغرها، فكان صغرها عنوان كبرها. نشأت على الاستقامة، والمروءة التامة، والشهامة، وليست لها صبوة، ولم تُحفظ لها زلة، ولا كبوة".
وفي وصف حالها، قال: "والله ما كنا نرى أن الشيخة الوالدة رضي الله عنها، تعيش ما عاشت، ولها كبد إلا تفتت، ولا نياط إلا انقطع، ولا عين إلا ذابت، من دوام البكاء والنحيب، والتحرق والحزب المذيب، إذ كانت رضي الله عنها لا تسمع قارئاً، ولا واعظاً، ولا قاصّاً، ولا باكياً، ولا متأسفاً على فائت، ولا صاحب مصيبة، إلا نحبت نحيب الثكلى، وتحرقت تحرق الحبة في المقلى، طوال أيامها، ومدة شهورها وأعوامها. بل لا نرى إلاّ أنها من شهداء المحبة. إذ كثيراً ما كنا نرحمها، ونقول لها في الإبقاء على نفسها، فتقول: ذروني وما أجد، فإن لكل محب لساناً يفرج به بعض ما في صدره من شعر، يشرح حالاً، أو ينفس بلبالاً، ولا لسان لي، فمن أين لقلبي راحة، ولكبدي برد، ولجفوني جمود، وشواهد الحب بين الأحشاء، والأمر جل عن الوصف والإفشاء". فلما تطاول بها ذلك رضي الله عنها، ذاب الجسم ذوبان الملح في الماء، وانجمعت بالكلية على الله، انجماع مشغوف الأحباء".
وقال أيضاً:" كانت ترحم الحيوانات، ولا ترى فرخ طائر بيد صبي يلعب به، إلا ورقت له، وعزمت عليه في رده وتسريحه، وإن رأت طائراً، أو كلباً به عطش، أمرت بحمل الماء إليه، ووضعه حيث يتناول منه".
وكانت الشيخة تقوم بغالبية مؤن الزاوية، وشؤونها، وعلى الرغم من زهدها وتنسّكها، كان لها دور مهم في تدبير الشؤون الدنيوية.
وكانت تتكامل مع زوجها في عملية التربية الصوفية، وتدريس العلوم الشرعية، خاصةً للنساء، فكانت توصف بالعلم، ورسوخ القدم، في السياسة، والعقل، والصلاح.
وقد رثاها زوجها الشيخ سيد المختار الذي رأت في منام، تحقق لاحقاً، أنها زوجته، وذلك في صغرها وقبل زواجهم، حسب ما أورد ابنها في كتابه الطرائف والتلائد، وقال زوجها في قصيدة رثائه لها: "عَفَا اللهُ عَمَّنْ لمْ تُقــاربْ صغيرة/ و لا كبيرة حتى أتى الموتُ مغلقا/ ثَوَتْ جــانباً بالبـيـت تعـبـد ربــها/ على ثقة من وعده تجتني التقى/ فما غرّها من زخرف العيش رائق/ وما غـــرّها تِبْــرٌ نفيـسٌ مروقا/ تُقــدّم دنيـــاها ليوم معـــادها/ فلا البخل تُلفيهِ لديها ولا الشقا/ ولا ثمَّ ريــاء و لا ثمَّ سمـعـة/ بل الجــود طبعاً تزجيــه نية اللقا/ سقاها من التنسيم غباً وفاتها/ وأسكنها الفردوس في روضة التقى/ مع الحور والولدان يرفلن عدوة/ بوشي جميل في الجنان تألقا".
غديجة منت العاقل... العالمة وسيدة المنطق
وفي مجال العلوم الشرعية، برزت نسوة لهن صيتهن، وتعد غديجة بنت محمد العاقل من أشهرهن، لما تركت من إسهام علمي، ولاشتغالها المعرفي، وقال الأستاذ عز الدين بن كَراي بن أحمد يورَ في حديثه عنها لرصيف22: "هي غديجة بنت محمد العاقل، وأمها شام بنت إبراهيم بن الكوري بن سيدي الفالي، أحد أبرز الوجوه العلمية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وبداية القرن التاسع عشر، وعلى الظاهر أنها عاشت أغلب حياتها في القرن الثامن عشر، وبعضها في القرن التاسع عشر، ولا يُعرف تاريخ مولدها، ولا تاريخ وفاتها بالتحديد، ومن الراجح أنها ولدت سنة 1730.
تلقت تكوينها العلمي أوّلاً في وسطها العلمي المباشر، حيث كان والدها محمد العاقل من أعلم أهل زمانه، ويكفي، شاهداً على ذلك، أنه أحد أكبر شيوخ العلامة المؤرخ محمد والد بن خالنا، الذي صرح بأنه اعتمد على إملاءاته في شرحه للشيخ خليل المعروف بـ"معين والد"، كما أن الشيخ محمد اليدالي يصفه ب"شيخنا"، وقد أخذت غديجة عن زوج والدتها الذي تربت في كنفه، علامة زمانه زين العابدين "باب الدين بن أشفغ ألمين".
ويضيف: "اشتهرت غديجة بمعرفتها بعلم المنطق، خاصةً أنه روي أنها كانت تقول: "كالمنطق عندنا"، إذا أرادت المبالغة في سهولة أمر ما". للشيخة غديجة شرح مليح على عقيدة محمد بن يوسف السنوسي، المسماة بأم البراهين، ولها شرح على سلم الأخضري في المنطق، ولها نظم بكلام آزْناگة لإحدى مسائل المنطق.
وكلام آزْناگة لهجة أمازيغية، يطلق عليها المتحدثون بها "آوَجْ انْ يُزْنَگن"، ويسميها الناطقون بالعربية من حولها كْلامْ آزْناگة، وما تزال مستخدمة في المربع الجنوبي الغربي لموريتانيا الحالية حتى اليوم. ولكنها لم تعد متحدث بها الآن، إلا من طرف بضع مئات من ثنائيي اللغة في أغلب الأحيان (الحسانية/ كْلامْ آزْناگة).
وقال عز الدين: تعلم على يد غديجة جمع من الأعيان، منهم أخوها أحمد بن العاقل، والمامي عبد القادر الفوتي، والعلامة المختار بن بونه الجكني، وقد أشار إلى تلمذة ابن بونه عليها، ابن أخيها العلامة الشاعر محمذن بن أحمد بن العاقل، إذ قال في قصيدة يفخر فيها بمآثر قومه: وما أقرأت قوماً فلانة قبلنا/ على عهد نجل البون ممن يشاهدُ.
هذا بالإضافة إلى العلامة حرمة بن عبد الجليل، وأحمد بن عبدي بن الحاج أحمد، والسالك بن عمار، وعبد الجليل بن أجِيوَن".
وأشار إلى أن علم غديجة، واشتغالها بالعلوم الشرعية، كان مقبولا جداً في المجتمع، شأنها في ذلك شأن من تصدر للعلم من النساء في بلادها، حيث كان للمرأة حضور قوي في مختلف مجالات الحياة، بما فيها الدرس، والتدريس، تؤطره القوالب الدينية، والمجتمعية السائدة.
وأكد على أنه كان لها تأثير قوي في مجتمعها عامةً، وفي أسرتها على وجه الخصوص، حيث شاعت العلوم العقلية، وعلم الكلام، وقال: "مما كان له الأثر الكبير في تميز أفراد الأسرة، وتفرد نظرتهم إلى الأمور، وتناولها، ويُروى أن أخاها العلامة أحمد بن العاقل، ربما كان قد اشتغل في بحث، وقال: "هذا ما في الكتب، والذي عند أختنا غديجة كذا وكذا، وهو أصح وأرجح".
نماذج هؤلاء النسوة في المجتمع الموريتاني، تُظهر أن النساء في بلاد الغرب الإسلامي، لم يكنّ أسيرات لمجتمع الحريم فحسب، بل كان لهن دور أساسي داخل المجتمع، وفي الأوساط الدينية، والسياسية، وفي العائلة التقليدية.