لسراة العلم هتف الصباح

26 مايو, 2021 - 11:19

إن علوم المذاهب الأربعة لو رُمي بجميع مراجعها في البحر،

لتمكنت أنا وتلميذي من إعادتها دون زيدٍ أو نقصان،

هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح.

هكذا قال أحد مشاهير المعرفة في موريتانيا خلال القرن الـ13 الهجري، وفق ما تتضمنه المصادر، ولئن كان ما عبّر عنه يمثل أعجوبة من الدرجة الأولى نظرا للقدرات البشرية في الحدود المتعارف عليها؛ إلا أن التجارب التي تحدثت عن اختبار بعض علماء المسلمين في مجالاتهم تكشف عن ذاكرة خارقة ومذهلة، اتَّسموا بها، وقد اختبر أهل بغداد الإمام البخاري؛ ليقيسوا مهارته في الحفظ، فبلغت بهم الدهشة منتهاها، وذلك كما في القصة التي رواها ابن عدي، وفي العصر الحديث، حين قال ابن اتلاميد التركزي الشنقيطي المتوفى سنة 1904، والذي زار العديد من المدن العالمية، إنه يحفظ "القاموس المحيط" كحفظه الفاتحة، تأكد العديد من المهتمين من دقّة مقولته، وهم يشاهدونه لا يجافي الدقة والصواب لدى أي سؤال فيما يتصل بهذا الشأن، أما الرأي العلمي المختص فيكشف أن سعة تخزين دماغ الإنسان تعادل طاقة الشبكة العنكبوتية العالمية، وهو ما يحسم الأمر.

منهج المخزون المعرفي، وصياغة طبيعة المشاركة من خلاله، يصلح مدخلا لاستدعاء وتثمين دور المؤسسات الخاصة بالتعليم التقليدي، والتي رعت المعارف لقرون في التاريخ الإسلامي، وقدّمت جهابذة ونماذج لا يخبو تألقها سواء كان ذلك بالقَرويّين والأزهر أو الزيتونة ومؤسسات العلم بحواضر الإسلام، وفي هذه الإطلالة نستعرض قبَسا من الدور الذي مثلته "المحاظر" الشنقيطية؛ وقد كانت الفضاء الذي أطَّر المسألة التعليمية في موريتانيا، واستمر حضورها إلى اليوم، يصف أحد أبرز المختصين، وهو الأديب الخليل أنحوي، المحظرة بأنها:

جامعة إسلامية شنقيطية أكثر ما توجد في البادية،

ولعلّ ثراءها كان عِوضا عن رتابة المشهد الجغرافي، الذي يحتضنها، وعدم غنى فضائه بالمظاهر المتنوعة والمتعددة، وهنا نكون على الطرف المقابل لنظرية ابن خلدون، التي رأى من خلالها:

أن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة،

حيث كانت طبيعة فضاء المحظرة المتمايز عما تضمنته المقولة، ربما سببا هذه المرة في التفرغ لاكتساب العلوم.

ما تزال التلاوات والقراءات ترتفع من داخل المحاظر، في المناطق الموريتانية، ولها في فضاءات القُرى والبوادي موضعها، الذي لم تتزعزع مكانته في القلوب، فلم يأفل نجم المحظرة بعد الحياة العصرية والعمل بنظام المدارس ومؤسسات التعليم الحديثة، ولئن لم تبدُ كما كانت وسيلة التعليم العامة؛ إلا أن الصبغة التي كانت تتركها في التكوين المعرفي لخرّيجيها ما تزال مختصة بها في الغالب، فمنهجها الموسوعي القائم على استظهار المؤلفات وتجْلِيَة محتواها بشكل تام، قد لا يتطابق دائما مع المناهج المعتمدة في التعليم المدرسي، الأمر الذي يمكّن المحاظر من الاستئثار بصناعة النماذج، التي يفترض لشخصياتها الإلمام الموسوعي، للتعامل مع العديد من مجالات الحياة، ولذا ما تزال أبوابها مشرعة، والمتوجهون إليها قادمون بغبطة واهتمام، في أجواء قد توضح أحيانا الفرق ما بين الإسهام التاريخي للمحظرة، وطبيعة التعليم بالمدارس الحديثة على النحو الذي عبّر عنه أحد العلماء في البلاد، عندما قال في إطار المقارنة بين المنهجيْن:

وأغلب طلاب المدارس همُّه   بيان حرام، أو بيان حلال.

وأما المحظرة وفق هذه الرؤية، فتحتفي بمواكبة الشريط التفصيلي للمسألة، والآليات المستخدمة، وصولا إلى توضيح الحكم ومتعلقاته، في إطار علومها الخاصة بها، في الوقت الذي تمثل فيه إيجابيات التعليم المدرسي مرجِّحات في جوانب أخرى، ومن هنا نشأت فكرة الدمج بين المنهجين في عدد من التجارب، التي تسعى إلى الحفاظ على المحظرة، ورفدها بميزات المدرسة.

عمّقت المحظرة المعارف وأشاعت روح التعلّم والتعليم، للدرجة التي نطالع فيها مَشاهد من قَبيل أن عددا من التلاميذ في منطقة "وادان" كانوا يأخذون ألواحهم، ويتجمهرون في الطرقات المحيطة بمسجد البلدة، فإذا رأوا أحدا من الشيوخ في طريقه إلى الصلاة يُملي عليهم درسا، فيكتبونه، وعند إيابه من المسجد يطلبون منه شرح الدرس، ويظل ذلك ديدنهم المتّبع عند كل صلاة.
وظلت مظاهر الاحتفاء بمعارف المحظرة، متعددة ومتنوعة، فكما يُكْبِر أولئك الشيوخ روح التوجه للاستزادة من مناهل العلم، فإن لبعضهم صورة خاصة فيما يتصل بعلوم المحظرة، حيث ورد في كتاب "بلاد شنقيط.. المنارة والرباط"، أن أحد العلماء كان له طبل "يحمله معه أينما توجه، وكان مولعا بتحرير المسائل، فإذا عنّت مسألة عويصة، وفُهمت، ضرب ذلك الطبل إشهارا للأمر وزهوّا به ".

أما كوْن تضافر الإسهام من الجميع، حالة مطّردة، فتدل على ذلك اللقطات العديدة، كما سجلت المرأة، بمداد المحظرة، حضورها الخاص ضمن هذا السياق، حيث تتحدث المصادر التاريخية عن 300 حافظة لموطّأ مالك، كُنَّ في رحاب إحدى البلدات بحقبة زمنية واحدة.

يبدأ البرنامج اليومي في المحظرة، والطير في وكناتِها، ولطالما كان أزيز التلاوة والقراءة داخل فضاء المحاظر في الهزيع الأخير من الليل أمرا مألوفا، وأما مجالس الطلبة بعد طلوع الشمس في حِلق حول الشيوخ، فهي الصورة التي نقلت معارف المحاظر من جيل إلى آخر، وتستمر تلك الحلقات إلى الضحى، فيكُون الطلاب خلال تلك الساعات قد صحبوا شعراء الجاهلية في أسفارهم، وكابدوا فهم دقائق المسائل الأصولية، والنحوية، وألموا بجزئيات مختلفة من الأحكام الفقهية، ثم يبدأ النشاط التعليمي من جديد مع صلاة الظهر، كما أن لمجالس المنافسة واختبار المحفوظات بعض الليالي التي تقام خلالها.

لكنّ هذا المشروع العلمي، الذي يستقطب الأوقات، ظلّ معه الشيوخ أيضا يمارسون تدابير الحياة اليومية بشكل عادي، فخلال القرن الماضي حدّث المختار ول حامدنْ أنه التقى محمدّو النانة، عند البئر حيث يستقي الناس، وينجزون العديد من الأشغال المتعلقة بظروف عيشهم في البادية، فسأله ابن حامدن عن صحة مفردة ومدى أصالتها، فأنشد له حولها في ذلك الميدان 100 شاهد من أشعار العرب.

أحمد مولود اكاه

مهتم بمجالات الإعلام والأدب

إضافة تعليق جديد