وجوه في مرآة الصحراء

24 مايو, 2021 - 14:06

لأن التراجم فضاءات تحفظ ألوانا متعددة من حياة المجتمعات، فتبقى نابضة ما بقيت التراجم في صحائفها، وللدور الذي مثّلته بالأخص في مسار حضارتنا، نستعرض جانبا من أخبار وتراجم فئة وطبقة يمثلون عنصرا رئيسا في المجتمعات، ألا وهم الفقهاء والعبّاد والزهاد حيث نقف مع الصورة الخاصة بعدد من أعيانهم في السِّفر التاريخي المعنون بـ"فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور" لمؤلفه ابن أبي بكر البرتلي (ت 1219هـ).

وبدءا مما يتصل بسياقنا الزمني اليوم، نعاين في تراجم فتح الشكور الدور الذي كان لأحد العابدين خلال أزمة شبيهة بقضية كورونا، حيث قال المؤلف في ترجمة عبد اللّه البلبالي "ومن كراماته أنه وقع مرض في تنبكتو قل من سلم منه، فاحتطب يوما على رأسه وباع (الحطب) في البلد، فكل من أوقد من ذلك الحطب نارا واصطلى عليه شفاه اللّه تعالى من ذلك المرض وبرئ من حينه، ثم عاود فكان كذلك حتى فطن الناس له، وصار بعضهم يخبر بعضا به، فازدحموا على شراء (حطبه) فرفع اللّه تعالى ذلك المرض عن الناس ببركته، من أهل القرن التاسع واللّه أعلم".

ونعود من هذه الصورة ذات الصلة بالمشهد العام وما تبرزه من نظرة المجتمع إلى ثمار معاني الاستقامة والبركة، التي تتفجر ينبوعا لدى أصحابها، فنطالع مشاهد من الحياة اليومية لبعض العُبّاد مثل الفقيه ابن أحمد بن أبي بكر، فقد جاء في ترجمته في الكتاب "قال محمد الكلادي صحبته في الحضر والسفر، فلم أره ترك قيام الليل ليلة واحدة.. كان يشد يديه بحبل، فيعلقها في سقف البيت لئلا يغلب عليه النوم".

هي مكابدة يحدوها استئناس الأنفس وإشراقها، فيغدو التبتل أهم حلم وأبهى وقت يتاح لهم، ولكن هذا الذوبان في المحاريب، والانصهار في فضاءات المناجاة يخلق حالة من القوة كالتي جعلت الظَّلَمة "يهابون" الفقيه عمر الخطاط وفق ما نقرؤه في الكتاب؛ بل إنه كان تعبيرا عن هذا المعطى يشمئز حتى من أن "يرفع بصره" إليهم.

وخلال حقب كانت الخوارق من أبرز ما يتواتر من أنبائها، نقرأ في تراجم أعيان علماء التكرور، أن الفقيه سيدي عثمان بن عمر الولي "من كراماته أنه إذا غضب على الظالم، وأشار له بعكازه يموت بإذن الله".

جهود حثيثة

ظل الدور الذي تسهم به النخبة الدينية قائما بشكل بارز في الفضاء الجغرافي، الذي يوثق الكتابُ بعض جوانبه، فالتحم الفقهاء وذوو الصلاح والزهد بحياة المجتمع مؤطرين ومصلحين، وكانت لهم المبادرات العديدة في هذا الصدد تفاعلا مع اللحظات ونشدانا لحلول المشكلات واستتباب الأوضاع، إذ يحدثنا الكتاب عن ابن سيدي أحمد الولاتي الذي "كان وليا صالحا"، ويستمر في الحديث عنه بما شهد عليه المؤلِّف من أنه "نَهى عن منكر وكان المطر قد أمسك عن الناس، والناس محتاجون إليه لسقي الأنعام، والحرث، فلما نهى عنه وانقطع ذلك المنكر جاء مطر عظيم في ثاني يوم نهيه، فأغاث الله به الناس والحمد لله".

 

دينيون ودنيويّون

وكانوا في مخالطتهم للمجتمع ربّانيّين مصلحين، ونجد إلى جانب ذلك أيضا منافستهم للعديد من الأغنياء في كسب متاع الدنيا؛ ولكن بمال مبذول في أوجه الإحسان والإنفاق على الناس، فكانت نسختهم من الغنى ممهورة بالسخاء؛ لذا نجد في فتح الشكور أن الفقيه العابد سيد أحمد بن البشير الكلسوكي "كان سخيا وكان رحمه الله كثيرا ما يقول إن بعض أشياخه أمره بالإنفاق، وقال له أنفق فإنك جالس على كنز"، كذلك عبْر السخاء يعرّف صاحب فتح الشكور قارئيه بـ"أحد الصلحاء المتقين"، وهو سيدي مولاي زيدان الذي كان "مُظهرا لنعم الله تعالى عليه، يلبس الملابس الحسنة الفاخرة"، وله في مجال الغنى كلمة سائرة "نحن دخلنا من الباب الواسع لا من الباب الضيق"؛ ولكنّ بسْطه على نفسه لم يكن هو كل مركز الدائرة، فقد كان سحَّ اليد ذا أفضال على الناس "سخيا من الأسخياء".

وعلى المنوال ذاته، منقوعا فقط بنمط خاص من محبة النبي صلى الله عليه وسلم، نجد أن سيدي أبا القاسم التواتي إمام المسجد الجامع في تمبكتو كان "يطعم الطعام وأكثر طعامه للمداحين؛ لشدة محبته للنبي صلى الله عليه وسلم، وموضع المدح قريب من داره، ومتى سمعهم يمدحون خرج إليهم بالرغائف المسخونة".

ولأن العلم ميدان التخريج، والمَشْغل الذي شكل صورة رموز المجتمع فقهيا ودينيا، نطل على تفاصيل بعض هذه العلاقة، فنطالع أن الطالب البشير بن الحاج الهادي "كان يُرى في عمامته أثر الدخان؛ لكثرة مطالعته على ضوء الحطب"، كما أنه "لم تيبس دواته منذ سنين عديدة سمعت أنها نحو 30 سنة والله أعلم، وكان يقول إنها من أوثق أعمالي عندي" مستدلا بمقارنة مداد العلماء بدم الشهداء.

وهذا النظر العالي، والإحساس الجميل مما يؤثث التفكير عموما لدى هذه الشخصيات، ولذا نلاقي في ترجمة الشيخ الفقيه الطالب الأمين بن الطالب الحبيب أنه كان "يكره طابه والشَّم، وقال لبعض تلاميذه لما رآه يشم إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها".

أحمد مولود اكاه

مهتم بمجالات الإعلام والأدب

 

إضافة تعليق جديد