غياب الرؤية في موريتانيا يهدد الأمن الغذائي

30 أبريل, 2021 - 23:59

تتوسط العاصمة الموريتانية نواكشوط سوق كبيرة تسمى سوق مسجد المغرب. تمتلئ متاجرها ببضائع مستوردة من الجارة الشمالية المغرب، وخاصة المواد الغذائية التي تستهلك بشكل يومي مثل الخضروات ومشتقات الألبان وغيرها. مع كل أزمة تحدث شمالا تتجلى مركزية هذه السوق وما يستورد من المغرب في مجال الغذاء. فحين توقَّف تدفق السلع خلال أزمة "معبر الكركارات" الذي قَطَعَ التنقل عبرهُ أفراد من جبهة بوليساريو نهاية العام الماضي بين موريتانيا والمغرب، التهبت الأسعار في نواكشوط وباقي المدن بسبب ندرة الخضروات والفواكه.

شيخة ولد أسويلم، تاجر في السوق تحدث لرصيف22 عن واقع "سوق المغرب" ومركزيته في الاستهلاك المحلي قائلا: "يمكن القول إن نسبة 95 في المئة من البضاعة الموجودة في السوق قادمة من المغرب، فدقيق المعجّنات والبيض والخضروات بأشكالها المتعددة من طماطم وجزر وبطاطس يأتي من المغرب، وحتى الزيتون وسمك السردين المُعلّب والكثير من مشتقات الألبان. يكفي توقف يوم واحد لحركة السلع القادمة من المغرب حتى ترتفع الأسعار إلى السماء".

هذا الواقع أكده زميله التاجر محمد ولد محمد راره، حيث قال لرصيف22: "نستورد من المغرب الخضار أساسا والحلويات ومشتقات الألبان. كل توقف يعني ارتفاع الأسعار وشح المواد، وخاصة الخضروات لأن الناتج المحلي منها موسمي في موريتانيا ويرتبط بفصل الشتاء وهذه هي المعضلة". لكن هل المناخ فقط هو السبب في ارتهان موريتانيا إلى المنتجات الخارجية؟

"سياسة كاذبة" للأمن الغذائي

يتصاعد كل حين النقاش حول ضرورة خلق اكتفاء ذاتي من الخضار، ازداد زخمه بشكل لافت بسبب جائحة كورونا العالمية وأزمة معبر الكركرات. وتعالت الأصوات قائلة إن موريتانيا بلد يمتلك مقدرات طبيعية تجعلها قادرة على تأمين غذائها بنفسها دون الاعتماد على الخارج، لكنها لم تجد أذانا مصغية.

الدكتور مصطفى أحمد علي وهو خبير اقتصادي موريتاني في المالية العامة، تحدث لرصيف22 قائلا: "الاقتصاد العالمي يجعل كل الأزمات مترابطة ومُعَوْلَمَة بما في ذلك أزمات الغذاء. ومع ذلك، هناك دول أكثر هشاشة من غيرها. لأن هذه الدول لم تعتمد سياسات الاكتفاء الذاتي الغذائي، وموريتانيا تعدُّ واحدة منها. السبب أنها اعتمدت على المساعدات الدولية للتنمية من جهة والمساعدات الغذائية من جهة أخرى. لكن الاستفادة من هذين النوعين من المساعدات، دفعتها إلى إهمال أي سياسة لتطوير أراضيها".

وأكد أحمد علي أن موريتانيا: "اعتمدت سياسة تخزين التبرعات الغذائية في مختلف البرامج والمؤسسات التي تبتكرها مثل مفوضية الأمن الغذائي وتآزر". مشيرا إلى أن هذا "أمن غذائي كَاذِبُ لأنه يأتي من التبرعات والإعانات الخارجية".

وأضاف: "من ناحية أخرى، فإن إفلاس استراتيجيتها في الاستيراد لتزويد أسواقها بالفواكه والخضروات يُظْهِر حدود سياسة الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي الغذائي التي توختها منذ عشرات السنين بدون جدوى. تصرف المليارات بالعملة الصعبة سنويا لاستيراد منتجات يمكن زراعتها وتعبئتها محليا. يمكن توجيه هذه المبالغ لتنمية الأراضي الخصبة في وادي النهر وشمامة والعديد من الأراضي الخصبة الأخرى في جنوب شرق البلاد".

ولا يقتصر الباحث في وصف التوجه الحكومي بالتقصير الفادح من الدولة والتعثر في إرادتها التي لا تكمن في البحث العقلاني الاقتصادي بل في "سياسة" منحرفة عمداً ".

وبحسب الباحث فإن تنمية المناطق القابلة للاستغلال الزراعي قد يرفع من وزنها السياسي خلافا للسياسة التي تنهجها الدولة: "الدولة تعي جيداً حجم الثروة الزراعية الهائلة التي تشكلها المناطق الجنوبية للبلاد. ولذا فإنها لا تسلط الضوء عليها، لأنها لا تريد أن يكون لهذه المنطقة وزن اقتصادي، لكيلا يوازن ذلك مناطق البلاد الشمالية. في الواقع، إذا تم تطوير هذه المنطقة الجنوبية، فإنها ستصبح قطبا اقتصاديا قويا يكتسب وزنا سياسيا مهما للغاية، سيؤثر على توزيع السلطة المركزية والجهوية وعلى الخيارات الاقتصادية للبلاد. الحكام لا يريدون ذلك. وهذا يعني أن إبقاء المناطق في حالة فقر وتبعية هو وسيلة لإبقائها في نقطة ضعف تفضي إلى حكمها".

ويضيف الباحث أن هذه السياسة جعلت الدولة تفضل إسناد استثمار الأراضي الخصبة والشاسعة إلى شركات أجنبية متعددة الجنسيات خاصة المجموعات الإماراتية والسعودية، بدلاً من الموريتانيين الأصليين. وذلك طبعا للأسباب السياسة المنحرفة المذكورة.

أسباب مناخية وصناعة ضعيفة

وحسب الخبير الزراعي المهندس الهيبة سيد الخير الذي تحدث لرصيف22: "تملك البلاد أكثر من 500 ألف هكتار من الأراضي الزراعية، وحصة مائية في نهر السنغال تتجاوز 13 مليار متر مكعب وأياد عاملة رخيصة. إلا أنها مع ذلك تعتمد على الخارج لتوفير احتياجاتها من الخضار، ويعود ذلك في الأساس لأسباب مناخية، فقصر فترة الإنتاج الملائمة لزراعة الخضروات الرئيسية يؤدي إلي حصاد في نفس الفترة من الزمن تعجز السوق عن استيعابه في ظل غياب منافذ تصدير أو توفر الصناعات التحويلية، وبالتالي يعزف كبار المزارعين عن الإنتاج، دون أن ننسى أنه في باقي فترات السنة لا يمكن زراعة تلك الخضروات بسبب الحرارة والانتشار الكثيف للحشرات".

ووضح قائلا: "بالرغم من امتلاك البلاد لقطعان هائلة تتجاوز 20 مليون رأس، إلا أنها تستورد معظم احتياجاتها من مشتقات الألبان من الخارج، ويعود ذلك لسيادة أنماط التربية غير الكثيفة المعتمدة على الانتجاع، حيث تتجول القطعان بعيدا عن مراكز تجميع وصناعة الألبان، هذا فضلا عن ضعف الإنتاج في فترة الصيف بسبب قلة المراعي".

وأشار إلى إنه يمكن تحقيق الأمن الغذائي فيما يتعلق بشعبتي الخضروات والألبان باتباع ما يلي: "بالنسبة لزراعة الخضروات، يمكن الاستفادة من الميزة النسبية للفترة الشتوية، وتصدير فائض الإنتاج للخارج خصوصا الشمال، كما يمكن تشييد مراكز تبريد وتطوير صناعات التحويل، أما بقية السنة فيجب أن يتم اللجوء إلى الزراعات المحمية في المناطق الأكثر برودة كمنطقة كرمسين، وبذلك نستطيع توفير احتياجات البلاد من الخضار على مدار العام". وأضاف: "فيما يخص توفير احتياجات البلاد من الألبان فلا بد من التركيز على أنماط الإنتاج التكثيفية، ولتحقيق ذلك يحب أن تطور زراعة الأعلاف حول منطقة الضفة وعندها فقط يمكن خلق حوض لإنتاج الألبان يغنينا عن ألبان الخارج".

وبالنسبة إلى المهندس فإن تحقيق الأمن الغذائي الوطني أمر غير بعيد المنال وممكن بزراعة 200 ألف هكتار ريّاً، وذلك يحتاج لإتباع مقاربة تنموية مستدامة ترتكز على إصلاحات هيكلية شاملة من قبيل: "فرض ضريبة على قطاع الصناعات الاستخراجية لتمويل تطوير القطاع الزراعي، وإجراء إصلاح عقاري حقيقي يسهل ولوج المستثمرين الحقيقيين للأراضي، وتشجيع المستثمرين عن طريق توفير الحوافز والضمانات الضرورية، وتوفير قروض زراعية فعالة، وتطوير منظومتي البحث والإرشاد الزراعي، وإعادة هيكلة التعاونيات الزراعية".

الفساد أصل المشاكل

أدى انتشار الفساد إلى حرمان البلاد بشكل مؤثر من العديد من مواردها المالية. بحسب الأستاذ أحمد علي فجميع القطاعات تأثرت، وقال: "لقد عانت الزراعة وتربية الحيوانات من آثارها. على وجه الخصوص من خلال تحويل المشاريع وميزانية وموارد الشركات المسؤولة عن التنمية الزراعية. تظهر تقارير محكمة المحاسبات ذلك بشكل رهيب. والممتلكات المصادرة من المسؤولين حاليا في المحاكم مثال صارخ لذلك. علاوة على كل هذا، فمن المعروف أنه في ظل الأنظمة العسكرية تم تسليم مشاريع التنمية الزراعية إلى حلفاء وعشائر للسلطة لنهبها. بلغ ذروته خلال نظام ولد الطايع. ومن المرجح بشدة أن أقل من 10٪ من موارد الميزانية المخصصة لقطاعي الزراعة والثروة الحيوانية قد استفادت منها. اختلاس الأموال والمعدات، من خلال سوء الإدارة والصفقات العامة المزورة، قد أعاق بالفعل تنمية القطاع الفلاحي".

ونوه ولد سيد الخير من جانبه إلى أن: "جزءا كبيرا من مديونية موريتانيا الهائلة يعود لتمويلات القطاع، حيث استغلت تلك الموارد لأغراض سياسية لا تخدم التنمية المنشودة. فخلال عقود هدرت المليارات بسبب السياسات الفاشلة، مثل إنشاء مفوضية للأمن الغذائي التي ينحصر دورها في توزيع المساعدات الغذائية الأجنبية. كما تم منح قروض هائلة وتوزيع أراض على مستثمرين غير جادين قطعوا أشجار الغابات وحولوها إلى فحم ثم اختفوا. وغالبا ما تكون التمويلات عائقا أمام تطوير القطاع، فعلي سبيل المثال تطورت جودة الأرز بعد أن توقفت الدولة عن تمويل شرائه، إذ أن تلك الموارد كانت تستغل لأغراض خاصة، وتتسبب في عدم الاهتمام بالجودة".

وخلص إلى أن: "تطوير القطاع وتحقيق الأمن الغذائي يحتاج للتسيير العقلاني والشفاف للموارد المتاحة، والابتعاد عن الشعارات السياسية الجوفاء".

وبرأي الخبير الاقتصادي أحمد علي: "موريتانيا بحاجة إلى حكم سياسي يتخلص من المساعدات الغذائية الدولية بدل الواقع الحالي من التبعية الغذائية المزمنة. إنه شكل من أشكال الحكومة المتراخية. المساعدة الدولية تكون مصحوبة دائما برغبة في إبقاء البلدان تحت السيطرة والاستسلام الاقتصادي. وإذا قبلت موريتانيا هذه المساعدة الغذائية التي تحرمها من أي إرادة لتحقيق الاكتفاء الذاتي، فذلك لأن الموارد المالية التي يمكن تخصيصها لهذا الاكتفاء الذاتي مخصصة لأغراض أخرى".

وعلى سبيل المثال فإن ميزانية وزارة الدفاع ضخمة جدا، لأن الدولة تخصص لهذا القطاع جزءا كبيرا مما كان ينبغي أن تنفقه على الزراعة وتربية الحيوانات وهو قطاع حيوي أيضا. لذلك فهي تضع أمنها الغذائي بين أيدي المانحين الدوليين وتكرس موارد ميزانيتها للدفاع وأغراض أخرى غير معلنة.

ويضيف أحمد علي "إذا قبلت الدولة افتحاص ميزانيتها، ولا أظنُّ ذلك، سيُظْهِرُ الافتحاص بسهولة أن اعتمادات الميزانية ليست مخصصة للتنمية الاقتصادية ولا للاكتفاء الذاتي الغذائي أو النمو الزراعي".

زراعة التجار والعسكر

يرى الباحث أن الجزء الأكبر من الأزمة هو في تدبير السياسة الغذائية، ولا يكمن ذلك في الموارد الطبيعية والمؤهلات التي تملكها البلاد بل بتحوُّل الاقتصاد إلى اقتصاد تجاري. فبحسبه: "لم تشجع الدولة الاقتصاد الصناعي، بل اقتصاد "التسويق" أي اقتصاد "التجار". اقتصاد المنتجات النهائية المستوردة للاستهلاك الذي يستنزف كل الدخل القومي إلى الخارج. وهذا يجعل الاستثمار في الزراعة وتربية الحيوانات أو الصناعة الزراعية حلما بعيد المنال. فالدولة تفضل الاقتصاد التجاري مع الاستيراد على الإنتاج المحلي. وطالما أن النظام السياسي موجه فقط للحفاظ على طبقة سياسية حاكمة معينة تعتمد الاقتصاد العسكري التجاري، فإن تطوير الصناعة الزراعية هو من نسج الخيال".

وبالنسبة إلى الباحث فإن من الضروري التمييز في موريتانيا بين "الثورة الزراعية" و"الثورة الفلاحية". وهذه الأخيرة ضرورية بحسبه: "ليتمكن المزارعون من الاستغلال الحقيقي لأراضيهم فيصبحوا في مرحلة موالية مزارعين بالوسائل التقنية اللازمة لزراعتهم. ومع ذلك، نحن بعيدون كل البعد عن تلك الثورة الزراعية لأن الدولة تمنعها خشية من ثورة حقيقية للقطاع".

هذه الثورة كما يصفها الباحث، ستغير من طبيعة علاقة الفلاح بالأرض ومن موقعه الاجتماعي الهامشي نسبيا في المجتمع.  ويقول الباحث إن الثورة الفلاحية "ستؤدي إلى تحولات عميقة في نظرة المزارع إلى ثروته الزراعية ومكانته في علاقات القوى الاقتصادية التي تحرك سياسة الدولة. إذا كانت هناك ثورة زراعية، فلن تأتي من الدولة. وإنما تسبقها ثورة فلاحية تأتي من الفلاحين من منطقة وادي النهر، والواقع أن توتّرات بدأ يُشْعَرُ بها في المناطق الجنوبية. المناطق الغنية بأرضها ولكن همَّشتها السياسات المتعاقبة للدولة".

ويبقى الأمل يحدو الكثير  من الموريتانيين في أن يستفيدوا من الثروات الطبيعية التي تزخر بها بلادهم ذات العدد القليل من السكان، بدل اللجوء إلى الجيران، أو منح الخيرات الموريتانية إلى الآخرين.

رصيف 22

إضافة تعليق جديد