العرب وثقافة التطوّع

24 فبراير, 2020 - 10:57

سألتُ رئيس المجلس الدّولي للّغة الفرنسيّة، هوبير جولي، ذات لقاء، عن أسباب تعدّد طبعات معجمي لاروس Larousse و Le Petit Robert،حتّى أنّنا نكاد نطالع كلّ سنة إخراجا جديدا ونسخة ورقيّة أو إلكترونية منقّحة لتلك المدوّنة اللغويّة الثرّة، تتضمّن صورا تمثيلية، ومصطلحات حادثة، وعبارات مبتكرة، وكلمات وليدة، ذات معان شتّى، تندرج ضمن سياقات تعبيريّة ومعرفيّة مختلفة، فأخبرني أنّ تجديد اللّغة الفرنسيّة وبقاءها سيّارة بين النّاس رهين تجديد ألفاظها، ومواكبتها مستجدات العصر، وكذا مدى قدرتها على اللّحاق باللغة الإنكليزية الغالبة. وتلك مهمّة يشرف على تأمينها الغيورون على اللّغة الفرنسيّة، والحرصاء على خدمتها، من لسانيّين ومعجميّين ومترجمين ومصطلحيّين ومختصّين في المعلوماتيّة. قلت: وكم يتقاضى هؤلاء مقابل ذلك الجهد العظيم؟ في الأثناء، خمّنت قبليّا، بيني وبين نفسي، أنّ جزاء كلّ فرد من أولئك الخبراء والباحثين لا يقلّ عن آلاف اليوروات شهريّا.. وما إن التفتّ إلى محاوري حتّى وجدته يبتسم في هدوء ابتسامة عريضة، قائلا لي في لهجة الواثق الذي تعلو صوته نبرة الفخر والاعتزاز: إنّهم لا يتقاضون في سبيل ذلك شيئا. يفعلون ذلك على سبيل التطوّع، ولا ينتظرون جزاء ولا ثناء، بل يقدّمون ذلك الجهد عربون محبّة للغة بودلير، وحرصا على بقائها فاعلةً في المشهد التّواصلي الكوني.

وفي سياق آخر، لاحظت في زيارتي مدنا تركية أنّها خِلْو أو تكاد من المتسوّلين (عدا قلّة من الأجانب) فسألت صديقا ترْكيا في هذا، فأخبرني أنّ مؤسّسة الوقف التركية تجمع، بطريقة دورية، نزيهة ومنظّمة، مساهمات المتطوّعين الأتراك المالية والعينيّة، وتوزّعها على المشرفين على المحافظات والبلديّات، وهؤلاء يوزعونها على محدودي الدخل وذوي الحاجة، على نحو أسهم في التقليص من الخصاصة والبطالة. كما توظّف تلك المداخيل لدعم الأنشطة الجمعوية والمدنية والثقافية.
والتطوّع سلوك حضاريّ دأب عليه عدد مهمّ من مُواطني الدّول المتقدّمة، فتجد منهم من يخصّص يوما أو بعض يوم في الأسبوع لخدمة المرضى أو المسنّين أو اللاجئين، أو للمشاركة في حملات  

النّظافة، أو للإحاطة بذوي الاحتياجات الخاصّة، أو للمساهمة في إحداث المناطق الخضراء، وغير ذلك من الأنشطة كثير. أمّا في الاجتماع العربي الرّاهن، فعلى الرغم من رسوخ التضامن في ثقافتنا، وشيوع خصلة الإيثار عند أسلافنا، وفي نصوص مقدّسة من قبيل "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" [الحشر: 9] ، وقول الرسول "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى". وعلى الرغم من الدّعوة إلى إكرام الجار والأخذ بيد المسكين، والاحتفاء بالضّيف في التراث العربي، قبل الإسلام وبعده، فإنّ تفعيل ثقافة التطوّع في واقعنا الحضاري المعيش، وإعمال هذا الرّصيد القيمي، ما زال باهتا في أيّامنا، بل يكاد يُعدم، فأين المتطوّعون لخدمة لغة الضّاد؟ وأين المتطوّعون بيوم عمل لصالح ميزانيّة الدّولة؟ وأين المساهمون في الأعمال الخيريّة والجهود التطوعيّة للإحاطة بالمسنّين والمعدمين، والمحرومين والمهمّشين، والمفقّرين في جوف المدينة وفي أقصى الرّيف؟ وأين المهتمّون بأطفال الشّوارع والثّكالى الذين يمضون سحابة يومهم في تحصيل ما يسدّ رمقهم؟ وأين المتطوّعون لتقديم محاضرات علميّة أو توعويّة لتأهيل النّاشئة وترشيد الشّباب وتعليم النّاس فضائل التضامن، وآداب الحوار وأسباب السّلوك الحضاري؟
يُمكن أن يُفسّر ضمور السلوك التطوّعي والعمل الخيري في سياق عربي بعدّة أسباب، لعلّ أهمّها شيوع النزعة الفردانية وتفكّك البنى الأسرية، وتراجع قيمة صلة الرّحم والإحسان إلى الآخر مقابل انتشار ثقافة الجمع والمنع، وانشغال النّاس بضغوط الحياة اليوميّة ومتطلّباتها المادّية الكثيرة، وكذا تدهور المقدرة الشرائية للمواطن العربي في ظلّ غلاء المعيشة، وتجميد الأجور، واستقالة الدولة (غياب أو تراجع صناديق الدعم/ عدم مراقبة الأسعار/ قلّة مكافحة الاحتكار..)، وصعود العولمة والرأسمالية المتوحّشة، فأصبح معظم الناس لا يجد الوسع ليحقق الكفاف لنفسه وأسرته، ولا يجد الجهد والوقت والمال للانخراط في عمل تطوّعي. إلى ذلك جميعا، تعمد أنظمة عربيّة إلى سنّ قوانين زجْرية لمحاصرة المبادرات الأهلية والجمعيات الخيرية، وذلك بتعلّة مكافحة الإرهاب حينا، والتضييق على الإسلاميين حينا آخر، والمبالغة في التوجّس من المبادرات  

الصادرة عن خلفيةٍ دينيّة عموما. ويحضر في هذا الخصوص مثالان، الأوّل حل النظام الحاكم في مصر مئات الهيئات الأهلية والجمعيات الخيرية التي استقطبت متطوّعين كثيرين، كلٌّ في مجال اختصاصه، وكان لها دور فعّال في مدّ يد العون للمحتاجين، وفي إنقاذ آلاف الأسر من الفقر المدقع. لكنّ حاكم مصر، عبد الفتاح السيسي، بادر إلى منعها وتجميد أموالها. فقط لأنّها على صلةٍ ما بخصم سياسي له، أعني الإخوان المسلمين. ولا حرج بعد ذلك أن يطحن الناس الجوع، والفقر والبطالة والتهميش. أمّا المثال الثاني فيتعلّق برفض نوّاب قوميين، ودساترة، ويساريين في تونس تمرير قانون صندوق الزكاة الذي اقترحته حركة النهضة، بهدف توظيف أموال المزكّين لتوفير منح للفقراء، والعاطلين عن العمل، ولتشجيع باعثي المشاريع الصغرى، ومساعدة مَن يعانون من أمراض مزمنة، وغيرهم من ذوي الحاجة. واعترضت الأغلبية البرلمانية على كلمة زكاة، وعدّتها محاولةً لأسلمة الاقتصاد التونسي. والحال أنّ المساهمين في الصندوق يدفعون أموالهم سنويا على سبيل التزكية على أنفسهم وأملاكهم، ويفعلون ذلك تعبّدا لله. وعلى ذلك الأساس، اكتسبت التسمية مشروعيتها ومعقوليتها. والمرجّح أنّ رفض تلك المبادرة التي لم تجد التأييد سوى من حزب ائتلاف الكرامة راجع أيضا إلى صدورها عن حزبٍ مدنيٍّ ذي مرجعية إسلامية. وبذلك يتمّ تعطيل الفعل التطوّعي، وتأجيل الاستثمار في أموال الزكاة، وتستمرّ معاناة المهمّشين والمعطّلين، والمعذّبين في الأرض على خلفيّة تقديم سياسيين للحسابات الحزبيّة/ الأيديولوجية على الصالح العام.
الرّأي عندي أنّ الحاجة أكيدة اليوم إلى إعمال ثقافة التطوع، وإلى إحياء رصيدنا القيمي التّكافلي، وتحرير المبادرة نحو الفعل الخيري الخادم للصّالح العام. حتّى متى تظلّ شوارع عربية مشوّهة بالقمامة في ظلّ إضرابات البلديّين؟ حتّى متى يتزايد عدد المشرّدين في الأحياء العربية وفي أطراف المدينة؟ حتّى متى ترضى النخب السياسية بهناءة العيش وغيرها يتضوّر جوعا؟ وحتّى متى يلتحف أطفال اللاجئين البرد والعراء في ظلّ لامبالاة أثرياء العرب؟ حتّى متى يكنز بعضهم القناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة، ويعاني آخرون بأس الفقر والخصاصة؟ فلنجعل ولو في المال القليل نصيبا للسّائل والعاطل واللاجئ واليتيم والمحروم، ولنخصّص سويعات من أيّامنا لخدمة الآخرين والأخذ بأيديهم حتّى نبني وطنا يتّسع للجميع، ويحتضن في دفئه كلّ المواطنين من دون استثناء.. فلنتطوّع ولنتعلّم أن نتحابب أكثر بدل أن تفتك بنا العصبيات. ولنفكّر بغيرنا.

أنور الجمعاوي

إضافة تعليق جديد