عودة إلى بيع البشر بالمزاد العلني

26 نوفمبر, 2017 - 12:07

لم يكن ينقص ليبيا المكلومة سوى أن تظهر فيها تجارة بالبشر، هي من أكثر المظاهر فجاجةً لهذا النوع من التجارة المشينة، وتتعلق ببيع البشر وشرائهم و... بالمزاد العلني. الخبر صادم، ويعكس حالةً من التقهقر على مستويات عدة. نقلت الخبر وكالة فرانس برس عن تقرير بثته قناة سي إن إن. ويشي مضمونه بمحاولة بعض "التجار" استئناف هذه التجارة التي شاعت في أوروبا إبان حقبة الصعود الاستعماري، وطاولت أفارقة، فمن تمّت التجارة بهم هم من الأفارقة أيضا، وهؤلاء تسللوا إلى ليبيا من بلدانٍ مجاورة، مستغلين حالة التسيّب فيها بعد الثورة، التماساً للحصول على مورد رزق. ثم وجدوا أنفسهم بغير أي غطاء أو حماية، وسط مظاهر الفوضى المسلحة وغير المسلحة. وكما يبدو، استغل بعض التجار، أو الطامحين لدخول عالم التجارة، محنة هؤلاء، لكي يحققوا الثراء عبر تنظيم مزادات لبيعهم لمن يرغب بـ "امتلاك" قوة عاملة بأقل الأجور أو بغير أجر مقابل 400 دولار للعبد. ولأن الضحايا أفارقة، ولأن الأفريقيين يختزنون ذكرياتٍ مريرة عن عهود الاستعباد في بلادهم على أيدي المستعمرين البيض، فقد جاءت ردود الفعل الساخطة ابتداء من أطراف أفريقية، فصدرت بياناتٌ عن الرئاسة النيجيرية والغينية، وعن مصدر حكومي في السنغال، تنديدا بهذه الممارسات "التي ترتقي لعصر آخر، نعتقد أنه ولّى إلى الأبد"، مع الدعوة إلى إدراج هذا الموضوع على جدول أعمال قمة الاتحاد الأفريقي المقبلة في يناير/ كانون الثاني 2018. وقد تضمن تقرير القناة الأميركية الذي بثته الإثنين، 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، خريطة أظهرت وجود تسعة أسواق للعبيد في مدن مختلفة من ليبيا، منها صبراتة وزوارة وغدامس غرب البلاد، وسبها جنوبها. 
وقد سبق للمنظمة الدولية للهجرة أن نبهت السلطات الليبية في إبريل/ نيسان الماضي إلى  

وجود أسواق لبيع المهاجرين الأفارقة وشرائهم في مدينة سبها، من أجل استغلالهم، إلا أن السلطات المحلية نفت صحة هذه المعلومات، واعتبرت "الادعاءات غير بريئة وتهدف من ورائها المنظمات الدولية إلى شرعنة مكان لتوطين آلاف اللاجئين بهذه المنطقة". أما الشارع الليبي فقد أصيب بصدمة، ورأى في بروز هذه الظاهرة دليلا إضافيا على حال الانهيار الذي تعيشه البلاد على مستويات عدة. وكان يؤمل أن يكون نشر هذه التقارير فرصةً للسلطات الليبية، لكي تقوم بتحقيقٍ يتقصّى هذه الظاهرة ومرتكبيها وظروفها، من أجل وضع حدّ لها، وتبصير الرأي العام بوقائع هذه الظاهرة والإجراءات المزمعة لمكافحتها، غير أن ردود الفعل الرسمية تراوحت بين الإنكار والتشكيك، والاتهام بمحاولة تشويه السمعة، وصولاً إلى تحميل الضحايا، وهم مهاجرون أفارقة غير شرعيين، مسؤولية ما حدث. ومن ذلك وصف المستشار الإعلامي في جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية التابع لحكومة الوفاق، ميلاد الساعدي، ذلك بـ "الادعاءات والافتراءات". واصفاً ملف الهجرة بأنه دولي، "وليبيا ليست مسؤولة عن تهجير هؤلاء الآلاف من أوطانهم، في وقت تعاني فيه من وجودهم على أرضها، منتهكين حرمتها وقوانين الدخول إليها والإقامة فيها". وخلص إلى أنه "لولا وجود هؤلاء المهاجرين على أراضي ليبيا، لما كانت هناك فرصة للمهرّبين والسماسرة، ولما كانت هناك متاجرة أصلا". ودعا الاتحاد الأوروبي إلى ضرورة مساعدة بلاده بتقديم المساعدات للمهاجرين و"أهمها ترحيلهم إلى بلدانهم". 
ثمة علاقة أو ارتباط بين الهجرة غير الشرعية وبروز ظاهرة الاستعباد، ومطلوب معالجة 

 أساس المشكلة في إطار إقليمي قاري (أفريقي) ودولي، غير أن الهجرة غير الشرعية، إذ تفسر جزئياً ظروف نشوء هذه التجارة، فإنها، في الوقت نفسه، لا تسوّغها، كما لا تبرّر على الإطلاق السكوت عنها، أو التقليل من شأنها، أو تصويرها باعتبارها نتيجة "طبيعية وحتمية" للهجرة، فهناك عشرات الدول تواجه مشكلة الهجرة غير القانونية واللجوء غير الشرعي، وبعضها يتعامل بتعسف شديد، وعنصري أحيانا، مع هؤلاء المهاجرين، ولكن من دون أن يصل الأمر لإخضاع المهاجرين لهذه التجارة المشينة التي تلحق إساءة بالغة بصورة البلد الذي تقع فيه، علاوة على مجافاتها التامة كرامة الإنسان والحس البشري السليم. 
محاولة الدمج بين الهجرة غير المشروعة وظاهرة الاستعباد، والإيحاء بأن هذه الظاهرة لن تجد حلاً شافياً لها إلا بوضع حد للهجرة وعودة المهاجرين إلى ديارهم، هو من قبيل التنصّل من المسؤولية، فالاستعباد يتعلق أساساً بالفوضى، وانهيار منظومة الدولة واضمحلال فكرة القانون، وهي من موروثات العهد السابق، مضافا إليها ما استجدّ من فوضى السلاح واضطراب الحياة اليومية الطبيعية، وتكاثر المرجعيات التي يمحو بعضها بعضا، والعسر الاقتصادي، واستضعاف الضعفاء الغرباء. ولا شك أيضاً أن انتشار موجة العنف والعنصرية ضد المهاجرين واللاجئين في غير بلد (لبنان وهنغاريا نموذجان لهذه الظاهرة) منذ نحو عامين وحتى أيام الناس هذه، وازدراء حقوق الإنسان وحرمة الحياة البشرية والقفز عنها، كما يحدث من دون توقف في سورية، قد أشاع جواً مسموماً وقيماً مقلوبة أصبحت فيه التعدّيات الجسيمة على الضعفاء والمشاهد الأليمة لهؤلاء أمراً روتينيا، ويوميا، وكأنه جزء من "طبيعة الأشياء وضرورات السياسة". 
ويزيد الأمر سوءاً أن ظاهرة تجارة العبيد التي انقرضت لا تجد من يُديمها، أو يبعثها مجدّداً سوى في عالمنا العربي. إذ إن ظاهرة الرق لم تختفِ بعد في بلد عربي أفريقي غير بعيد عن ليبيا هو موريتانيا، وإن كانت قد تقلصت، كما تُجمع تقارير شتى بفعل الضغط الدولي، وصدور قوانين رسمية متتابعة لإنهاء هذه الظاهرة، وفي وقتٍ يتم فيه أيضا زج بعض الناشطين المكافحين ضد هذه الظاهرة في السجون.

محمود الريماوي

إضافة تعليق جديد