سياسيون ساهموا في قتل ولد بكَـرن...

4 نوفمبر, 2017 - 17:57

المكان: مكاتب سلطة تنظيم النقل في نواكشوط.
الزمان: في حدود الثامنة والنصف صباحا.

يبدو أن دوافع الجريمة توافرت قبل الأداة، فالقاتل قد استمع في قهوة الإدارة التي التقى فيها بالمقتول إلى أشياء غير مستساغة موجهة لأمه الفنانة عيشة منت شيقالي.
استدعى القاتل المقتول لسيارته فبدأت فصول الجريمة. وحسب الصحافة الموريتانية والمدونين فإن الرجلين غلّقا أبواب السيارة التي كانت مسرحا للجريمة وبدأت لحظات ولد بگرن في الحياة الدنيا تتناقص، لتصل إلى وضعه في صندوق سيارة القاتل وهو ينزف ثم يسلم نفسه وضحيته للقوة العمومية.
لم يكن ولد بگرن - رحمه الله - ليركب مع من أسمعه أذى في أهل بيته قبل دقائق؛ إلا إذا كانت عملية خداع كبيرة حصلت، أو كان المقتول نفسه غير طبيعي.
إذ ليس من المنطقي أن يؤذي شخص أمَّ آخر بطريقة مهينة وأمام الملأ ثم يرافقه نحو سيارته.
أما الجاني فقد كان غضبه جهنميا ,حيث طعن جليسه أكثر من مرة وجدع أنفه وثقب صدره - حسب المتاح - من الوقائع.
لست في معرض الحكم لأن الجاني بين يدي العدالة الأرضية والمجني عليه بين يدي عدالة السماء.
لكن ولد بگرن الذي ظهر في السياسة؛ مؤخرا مطبّلا ومناصرا وموبّخا ومرافقا، هو فرد من منظومة من المصطفَيْنَ تدور في فلك الشخصيات العمومية، تزمجر عن هذا وتعظم من شأن ذلك، ولهم حظوة من القرب تجعل مناسبات ظهور أولئك القادة والسادة مناسبات لظهورهم.
إنهم شباب يخلطون الليل بالنهار، كل همهم هو الحظوة؛ نظنهم سذجا ولكن لديهم مشروعا يدافعون عنه ومواقع ينافحون عنها.
حناجرهم وجوارحهم محجوزة لدائرة الرئيس، وأحيانا يجدون أنفسهم ضحايا لعائدات خيالية عاجزين عن تدبيرها.
بل وحين يجف ضرع السياسة يرتبكون.
يمسون ويصبحون وهم يحضرون للزيارة الفلانية أو للمؤتمر الفلاني.
من أراد أن يصفهم يمكنه القول إنهم نخبة ضحايا النخبة.
فالسياسة هي التي قتلت ولد بگرن قبل أن تودي بحياته طعنات ولد احمد زيدان.
نعم فالماكينة النمطية منذ بداية الدولة الوطنية أفرزت أشخاصا مرحين يصرخون ملء حناجرهم في المطارات والموانئ والأرياف والمدن والقرى، وفي الغالب يحظون بعناية خاصة.
لكن شبابا ظهروا مؤخرا بولغ في إيصالهم، ملابسهم فاخرة وسياراتهم باذخة وحناجرهم صداحة، لا يملون وقليلا ما يتذمرون، وإذا مر بهم الساسة شجعوهم على الضياع.
أفّ على السياسة حين تصنع الزعماء على فتات البشر، لقد حاورت الكثير من هؤلاء وحاولت فهم دوافعهم، فلم أتحصل على قناعات ولم ألمس أهدافا عدا الوظيفة المدرة للدخل المميتة للفرد تلك.
رحم الله الشاب ولد بگرن، فقبل مدة وصلني فيديو له وهو يعلن الولاء لحزبين مواليين أمام رئيسيهما وقد سب قبل الإعلان الحزب الحاكم وطريقته، واقترح على رئيسي الحزبين أن يقبل كل منهما ولاء نصف منه.
بدا الرجل أنيقا منهكا، وقد أعيته الحيلة وتكلّف كثيرا في المواءمة بين الجلسة والقناعات والمراد من التصريح، وكأنه دخل عالما لم يكن معَدّا له.
على جميع السياسيين أن يتبرءوا إلى الله من مصائر أولئك الشباب ويبعثوهم في نقاهة واستشفاء لأنهم أدمنوا إحدى الحسنيين فغابت الماهية وتلاشت أشياء جميلة لم تكن لتغيب لولا السياسة والسياسيون.
في المجتمعات الإفريقية بل وحتى في أكثرها ديمقراطية؛ يحصل أن ترى طبالين نحيفي الأجسام وحرسا ضخام البنيات وعجائز مزغردات في حشد سياسي للثناء مدفوع الأجر.
بل أغرب من ذلك , ففي الكاميرون مثلا حين تزور مأتما للتعزية أو التباكي فإنك ترى فرقة نسائية مأجورة تسمى “البكاءات” كل مهمتها التنافس في النحيب واللطم والإجهاش حدّ الحشرجة، وقد تتغامى إحداهن فتحمل على الأكتاف وترش بالماء، وقد تتفاقد إدراكها فتنكشف عورتها ،وللحيطة فهن في الغالب عجائز صرن في حل من الفتنة.
ويحدث في أحد مجتمعات الجوار الإفريقي لموريتانيا أن تسمع إحداهن في تعزية وقد أسرت إلى صديقتها : لقد كان بكاؤك الأروع!
وفي أوروبا توجد شركات للماركتينگ السياسي والرياضي توفد فرقا من شبابها مدفوعي الأجر لارتداء ملابس الحزب السياسي أو فريق كرة القدم، ويسابقون أمام الكاميرات لنيل التوقيعات من النجوم، والتقاط صور هي في الغالب سيلفي، ليرى الآخرون مدى “محبوبية” المُشَهِّر له.
لكن كل هؤلاء اتخذوا من العزف والابتسامة والبكاء واستعراض الأجسام مهنة على مهنهم؛ فليس في كل يوم مأتم ولا مباراة ولا انتخابات، فيعودون إلى مهنهم خارج زمن الذروة.
أما نحن فنعين الشباب على الفراغ ونمجد البطالة والصراخ علانية، وهكذا نصنع عنفا لفظيا متأصلا ذا مردودية كبيرة، قد يتحول إلى دافع لجريمة نكراء.
قد أكون في هذه المعالجة قسوت مع قرائي من ذوي الجاني المتهم أعانه الله على التوبة واستجلاء التحقيق القضائي وقلل من أمثاله، والضحية المقتول رحمه الله وأحسن عزاء ذويه؛ لكن جرت العادة أن نتخذ من أحداث جسام مناسبة لدفع الضرر وجلب المصلحة ولو كانت أدواتها التعبيرية قاسية.

الأستاذ/ إسماعيل يعقوب الشيخ سيديا

الساحة

إضافة تعليق جديد