الشيخ محمد عبد الله بن آد وتجربته النموذجية في بومديد

15 يوليو, 2017 - 00:57
الأستاذ المفتش: محمد المختار بن خدي الملقب يربى

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على نبيه الكريم

الشيخ محمد عبد الله بن آد وتجربته النموذجية في بومديد

انتشرت الطرق الصوفية في بلادنا ، ولعبت المشارب الروحية جميعها دورا كبيرا في تزكية النفوس وتهذيبها وتنمية الوازع الديني الإيماني لدى أتباعها وتقوية اتصالهم بخالقهم عز و جل...

وقد تفردت كل طريقة بخصائص ميزتها من غيرها، والمتتبع لحياة الشيخ محمد عبد الله بن آد –قدس الله روحه- يلاحظ أنه في طريقته ومنهجه اعتمد أسلوبا جديدا يمكن أن نسميه الزهد الإيجابي، أي أنه يزهد في سفاسف حظوظ النفس ويبتغي معالي الأمور بصرف الطاقات وتعمير الأوقات بالطاعات والأعمال النافعة، فيجسد على أرض الواقع المقولتين الشهيرتين (الدنيا مطية الآخرة لمن أحسن ركوبها..) و (عبادة الرجال منافع المسلمين) ومصداق ذلك ما ذكره مريدو الشيخ (تلاميذه) عن ورد الجماعة المتمثل في أداء الواجبات الشرعية ولزوم الطاعات والذكر والتسبيح ومجاهدة النفس والشيطان بالعمل المضني في سبيل الله لصالح المحتاجين. ويقول مريدو الشيخ محمد عبد الله بن آد أن "كرامته" تمثلت في "العمل" في إحياء الأرض وعمارتها ، ومن ذلك تشييده للسدود ليرتفع منسوب المياه الجوفية فيتحول "مديد" الماء إلى عيون كثيرة مياهها غزيرة ومحاصيل حقولها وفيرة، وبمعنى آخر كان الشيخ محمد عبد الله بن آد يصنع كرامته وينتجها وفق العادة التي قدر الله عليها الأقدار ولم يكن يجلس وينتظر أن يخرق الله له هذه العادة متمثلا القول المأثور (ترك الأسباب من سوء الأدب مع الله..).

 

الاستقرار في بومديد: (وضع أسس التجربة المتميزة)

أرسى الشيخ محمد عبد الله  بن آدَّ في بومديد في ثلاثينيات القرن الماضي (القرن العشرين) دعائم تجربة فريدة في كل شيء مثلث نموذجا مصغرا للدولة المثالية كان فيها سابقا لعصره بما شيد من البنيان وبما نشر من الإصلاح في جميع المجالات(بلاد شنقيط: المنارة والرباط ، الخليل النحوي صفحة 518).

تمثلت هذه التجربة في وضع أسس وقواعد نظام متكامل للتنمية الشاملة على غير مثال سابق تفاعل فيه العنصر البشرى مع عناصر التنمية الأخرى، وكان لجماعة الشيخ من طائفة المتجردين دورها الحاسم في النجاح الذي تحقق إذ التف حول الشيخ في فترة الذروة أكثر من ثلاثمائة من المريدين الذين تجردوا من الدنيا وحظوظها وآثروا خدمة الضعفاء والمحتاجين ابتغاء مرضاة الله واحتسابا للأجر والمثوبة من عنده سبحانه وتعالى واستبدالا للذة دنيوية فانية زائلة بلذة أخروية باقية دائمة، فتوزعوا في طوائف الخدمة المنتشرة في ميادين العمل والإنتاج والعطاء وانصهرت جهودهم وتكاملت لتؤتي أكلها في جميع المجالات (الدينية،الاجتماعية، الزراعية والتجارية..).

مظاهر تكامل التجربة التنموية في بومديد وثمارها:

سنتناول فيما يلي بشيء من التفصيل أهم جوانب هذه التجربة التنموية ومجمل الأنشطة التي ساهمت في جعلها رائدة، وسنبرز أثناء ذلك مظاهر التكامل بين مكوناتها المختلفة:

أ-التقري: في العرف الاجتماعي عند أهل تلك الناحية آنذاك كان التقري مذموما، يقول المثل في ثقافتهم الشعبية (الّ ادوبَ اسوبَ) للتنفير من حياة الاستقرار وتفضيل حياة الترحال عليها، كذلك كان العمل في الأرض وما اتصل بها (استصلاحها للزراعة) يرمز إلى الدونية والمهانة، فجاء الشيخ محمد عبد الله بن آده معلنا الثورة على هذه المفاهيم الخاطئة غير المنسجمة مع العصر المتحول، ضاربا بعرض الحائط بكل التقولات والتخرصات عليه وعلى جماعته، واضعا نصب عينيه ما رأى بنور الله من حقائق ومتغيرات جديدة توحي بأن المستقبل لأهل المدن والقرى المستقرين بها حيث لا يمكن التخطيط لأي تنمية ناجعة إلا في ظل وضعية مستقرة ثابتة.

وهكذا اختار ما اختاره الله له من التوطن والاستقرار في بومديد فبنى مسجده الجامع الذي مازال قائما لم تتعطل فيه الجمعة والجماعة منذ أكثر من ثمانين عاما، وبدأ ينفذ على أرض الواقع أفكاره.

ب-التعليم والتأهيل الاجتماعي: ابتدأ بالتعليم فافتتح المحاظر (المدارس) لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الشرعية واللغوية بمستوياتها المختلفة، حيث كان يطبق فيها نظام مزدوج للدراسة والخدمة تكلف فيه كل فرقة ذات مستوى منهجي موحد بإنجاز عمل معين بالإضافة إلى برنامجها الدراسي، وتكلف مدارس النساء بأعمال النسيج والحياكة والتطريز وفنون الصناعة التقليدية.

وفي المجال الاجتماعي أقام الشيخ محمد عبد الله بن آده نظام رعاية يقوم على الإنفاق في سبيل الله ويحقق معنى التكافل والتضامن في أصدق تجلياتهما بإطعام الطعام وإغاثة الأنام، استمر حتى عهد قريب يؤدي خدماته كاملة، عم نفعه الفقراء والمساكين وعابري السبيل وطلبة العلم وأسعف كثيرا من المحتاجين (المرضى، العجزة، والمسنين) وما تزال بعض مكوناته تؤدي واجباتها المنوطة بها كما كانت (قرى الضيف وإيواء الضعيف).

ج-الزراعة (الفلاحة والتنمية): اتجه الشيخ وجماعته إلى الأرض يستصلحونها ويستخرجون خيراتها، فشيدوا السد الكبير المشهور باسم الشيخ (سد ولد آده) وسدودا أخرى فاحتجزت الماء مما أدى إلى ارتفاع منسوب المياه الجوفية، وحفروا العيون الكثيرة المبنية بالحجارة (سبعا وعشرين عينا)، فتدفقت المياه غزيرة تروي الحقول والمزارع و واحات النخيل في الأراضي الخصبة المحيطة ببومديد من جميع الجهات، فأصبحت بعد استصلاح مريدي الشيخ لها تزهو خضرة وبهاء وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها بمختلف أنواع الزروع حتى أضحى بومديد يوصف بأنه سلة غذاء المنطقة كلها (اركيبه وتكانت) وصمام أمنها الغذائي إذ كانت القوافل تسير من بومديد في كل اتجاه تعبر المسالك والطرقات محملة بجميع أصناف البقول تجوب المدن والقرى تبيع للقادرين وتوزع على المعوزين (موريتانيا عبر العصور ، اسلم بن محمد الهادي ، ج2 ص30).

ولم يكتف الشيخ محمد عبد الله بن آده في المجال الزراعي بتحقيق الاكتفاء الذاتي والفائض الإنتاجي ، بل تجاوز ذلك إلى التحكم في المصادر الطبيعية المتاحة بحسن استغلالها والاستفادة منها ، حيث أثمرت المزارع في بومديد عينات من القطن بكميات معتبرة وعالجت نساء الجماعة لحاء أشجار ونباتات محلية، وتمت حياكة كل هذه العينات في بومديد في ورشات متخصصة أنتجت أنواعا من الأقمشة للاستعمالات المختلفة (انظر الوثيقة المرفقة).

وكما كان الشيخ سابقا لعصره في مجال الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي فقد كان من أوائل من انتبهوا إلى أهمية المحافظة على التوازن الفطري بحماية الوسط الطبيعي (حماية البيئة) فأقام المحميات الطبيعية –قبل تأسيس الأمم المتحدة- وكلف أحد مريديه بمكافحة قطع الأشجار فكان هذا الأخير مشهورا عند الجماعة باسم (تلميد لكواديم) لأنه كان يسحب القادوم الذي يجد صاحبه متلبسا بالجرم المشهود أي قطع الأشجار، وما تزال بعض هذه الحدائق الطبيعية المحمية قائمة متحدية عوادي الزمن لم تتمكن عقود متعاقبة من الجفاف من النيل منها، بل بقيت شامخة شاهدة على عصر من البذل والعطاء بدون حدود، وقد فازت إحداها بجوائز محلية وإقليمية في حماية البيئة ومكافحة التصحر من أهمها: ميدالية منظمة السيلس CILSS لعام 1999.     

 

وفي ميدان التنمية الحيوانية: اهتمت جماعة الشيخ بتربية جميع الحيوانات الأليفة وخصص الشيخ لكل نوع منها (الإبل، البقر، الغنم ، الخيل والحمير) طائفة من المريدين للعناية به، تقوم بكل ما يلزمه من حسن رعاية وتسهر على تنميته بأفضل الطرق وأكثرها ملاءمة للظروف والأحوال المختلفة ، فنمت وتكاثرت واشتهرت قطعان ماشيتهم التي كانت تحجب الأفق عندما تنتشر في البراري وعمت منافع ألبانها ولحومها وأوبارها وظهورها المحتاجين، وتخصص بعض مريدي الشيخ في تجارة المواشي (الجلابة) ونجحوا فيها نجاحا منقطع النظير.

د-التجارة : برعت جماعة الشيخ محمد عبد الله بن آده في أساليب وأنواع التجارة المعروفة في ذلك الزمان (تجارة القوافل وتجارة المواشي...) وتحكموا في أدواتها وكان ذلك يتم بإشراف مباشر من الشيخ وبتخطيط وتوجيه دائمين منه.

وقد اشتهر مريدو الشيخ في معاملاتهم التجارية بالإستقامة والورع والنزاهة والوفاء، فكان الناس يقبلون عليهم لإتمام الصفقات وإبرام الاتفاقيات التجارية ويودعون لديهم الودائع والأمانات فيحفظونها لهم.

وهكذا بلغت تجارتهم أوجها في بداية خمسينيات القرن الماضي وسارت قوافلهم في كل اتجاه، وأقاموا صلات وثيقة مع أهل كل أرض وطئتها أقدامهم واتسعت أنشطتهم فافتتحوا لهم فروعا في كل من أطار بموريتانيا وخاي بمالي واندر بالسنغال، وتضخمت تجارتهم حتى عبرت دول وسط إفريقيا جنوب الصحراء متجهة شرقا في طريقها إلى الحجاز ، فكانت لهم محطات وفروع في كل من زندر وأغاديس (النيجر)، كانو (نيجيريا)، فورت لامي (نجامينا حاليا عاصمة تشاد)، سبها (جنوب ليبيا)، الكُفرة (شرق ليبيا)، وأم درمان (السودان) ...

وقد حرص الشيخ قدس الله روحه أن يحظى مريدوه من أهل الأكوان (أرباب الأسر) بنصيبهم من الرعاية والتأهيل حتى يكون لهم دورهم الإيجابي في تنمية وازدهار المجموعة، وأشرف بنفسه على ذلك فوزعهم على طوائف العمل وحرص على تأسيس الأسر والعناية بالأبناء بتعليمهم وتوزيعهم مثل آبائهم على طوائف العمل المختلفة ليتدربوا ويتعملوا من التلاميذ المتجردين للخدمة كيف يصبحون منتجين، فكان من بينهم من كان له شأن كبير ووفق في حياته فجمع أموالا كثيرة ونعم بحياة سعيدة وكان الشيخ يعطيهم الفرصة للمشاركة في تسيير الشأن العام، وبفضل هذه السياسة التنموية الشاملة تحقق الازدهار وعم الرخاء المجموعة كلها، ولم تتأثر بما تأثر به غيرها من المجاعة وسوء الحال وقلة اللباس (عام العرية) خلال الحرب العالمية الثانية.

وازدهرت مدينة بومديد (حاضرة الشيخ) في تلك الحقبة فأصبحت قبلة لذوي الحاجات المختلفة ومحجة لأصحاب المقاصد المتباينة إذ لا يخيب قاصدها، واشتهر الشيخ محمد عبد الله بن آده في كل الآفاق بما نشر من الخير وكان له ذكر حسن في كل مجلس ويد طولى عند كل حي ، وشهد له القاصي والداني بالفضل والصلاح، واعترف له الخصم قبل الصديق بالنبل والكرم ، وسارت بسيرته العطرة الركبان ، وكان له صولات وجولات في ميادين الإصلاح والبناء والتعمير.

وفي مدة وجيزة أصبح الشيخ محمد عبد الله بن آده –قدس الله روحه- أحد أعيان البلد وأعلامه البارزين وشارك مع غيره من شيوخ ومشائخ موريتانيا في صياغة مستقبل البلاد، ولما نالت استقلالها و اطمأن عليها وقد صار يحكمها أبناؤها تاقت نفسه واشتاقت روحه إلى مجاورة الحبيب المصطفى عليه أزكى الصلاة وأتم التسليم، فهاجر إلى الديار المقدسة ليبدأ هناك في المدينة المنورة قصةَ نجاح أخرى قد نعود إليها لاحقا.

وبرغم تقصير القريب في التعريف به وتنكر الغريب له يبقى تراث الشيخ محمد عبد الله بن آده قدس الله روحه يحتاج إلى دراسة متعمقة للاستفادة من منهجه في علاج كثير من المعضلات وإيجاد حلول لكثير من المشكلات فقد كان رجلا بمستوى دولة، بل بمستوى أمة لما منحه الله من الفيض العميم والتمكين العظيم، فينبغي تكريمه وإحلاله المنزلة الرفيعة التي هو مستحق لها بكل المقاييس.  

الأستاذ المفتش: محمد المختار بن خدي الملقب يربى

هاتف: 36620968

واتساب: 26620968

صورة  السد الكبير المشهور بسد ول آدَّ وقد امتلأ بالمياه
صورة لشهادة حاكم فرنسي أثناء زيارته للمنطقة توثق أعمال و انجازات الشيخ في بومديد، فبراير 1950
الشيخ محمد عبد الله ولد آدَّ مؤسس بومديد

التعليقات

جزاكم الله خيرا اخي المختار وبارك الله فيكم ونفع بكم ان شاء الله. نعم هكذا يكون التوثيق الذي اكرمك الله به لتنقل لنا هذا الفيض الزكي عن شيخنا رضي الله تعالى عنه وارضاه. تقبل سلامنا من السودان.

إضافة تعليق جديد