نظرات في سورة الإخلاص

8 يناير, 2016 - 13:22

قال تعالى

(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ )

(مكية وآياتها 4 آيات)

1.مقدمة السورة:
نزلت سورة الإخلاص في مكة حين كانت تعلوها معتقدات الشرك، وعبادة الأوثان، ونظام الجاهلية، فجاءت آيات السورة الجامعة المانعة بمثابة إعلان لهوية رسالة الإسلام المتميّزة، وتصريح بانفصالها عن عقيدة المجتمع وعبادته ونظامه. تبدأ السورة بتنزيه الله-سبحانه- عن الشرك والاحتياج ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ )، لا بصيغة الأمر بالإيمان، بل بصيغة الأمر بالإعلان، فقوله تعالى (قل) أمر بالصدع والتصريح العام على الملأ، وهو يؤشر على أن عقيدة الإسلام عقيدة للجماعات والكيانات البشرية، فهي تخاطب الحياة العامة وشؤونها، ولا تقبل بطبيعتها الاعتزال في الزوايا أو الانغلاق في وجدان الأفراد. ويكتسب هذه الإعلان أهمية خاصة بسبب موقعه؛ فمكة حينئذ كانت تعد مركزاً للقيادة الدينية والروحية بين العرب؛ لارتباطها بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام، ولكونها تضم الكعبة بيت الله الحرام الذي تحجّ إليه قبائل العرب من أنحاء الجزيرة، وهي فوق ذلك مركز تجاري تشد إليه رحال القبائل في رحلة الشتاء والصيف. بيد أن السورة لم تقتصر على إعلان تمايز رسالة الإسلام عن عقائد الشرك لدى قريش والعرب فحسب، بل شملت الأديان السماوية المحرفة من يهودية ونصرانية، حيث نزّهت الله عن الولد والوالد وهو ما تزعمه النصارى وفرق من اليهود (لم يلد ولم يولد). وشمولية الخطاب هذه لمختلف العقائد والأديان والأقوام، مؤشر على عالمية الإسلام في عقيدته ودعوته منذ البدايات الأولى للوحي. وهي كذلك مؤشر على تجاوز العقيدة والدعوة لجغرافيا المكان؛ فموضوع الخطاب وصفة المخاطب يتجاوز قريش ومكة، بل يتعدى العرب وجزيرتهم إلى ما وراءها شرقاً وغرباً.

 

ولهذه السورة فضائل عدة وردت عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم:

روى الترمذيّ عن أنس بن مالك أنه قال: (أَقْبَلْت مَعَ النَّبِيّ  فَسَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأ { قُلْ هُوَ اللَّه أَحَد}، فَقَالَ رَسُول اللَّه : وَجَبَتْ. قُلْت: وَمَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: الْجَنَّة).[1]

وثبت في صحيح البخاريّ عن أبي سعيد الخُدْريّ: (أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } يُرَدِّدُهَا فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا [أي يراها قليلة] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ). (انظر ملحق رقم 1).

وروى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ فَكَانَ يَقْرَأُ لأَصْحَابِهِ فِي صَلاتِهِمْ، فَيَخْتِمُ بـ { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ  فَقَالَ: (سَلُوهُ لأَيِّ شَيْءٍ يَصنَع ذَلِكَ؟) فَسَأَلُوهُ. فَقَالَ: لأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : (أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّهُ). وفي رواية الترمذي: (إنَّ حُبَّها أدْخَلَكَ الجَنَّة).

وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أَنَّ النبيَّ  كَانَ إِذَا أَوى إِلى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلةٍ جمَع كَفَّيْهِ ثُمَّ نفَثَ فيهما فَقَرأَ فِيهما: {قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ}، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلَقِ}، و{َقُلْ أَعُوذُ بِربِّ النَّاسِ}، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا ما اسْتطاعَ مِن جسَدِهِ، يبْدَأُ بِهما عَلَى رَأْسِهِ وَوجهِهِ، وما أَقبلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذلكَ ثَلاَثَ مرَّات).

وفي تسميتها بسورة الإخلاص أوجه، الراجح منها ما نُقل عن عبدالله بن المبارك "لأن فيها إخلاصا لله من كل عيب ومن كل شريك وولد".[2]

 

ب - التفسير:

(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ )

(قل) الأمر هو للرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو عام يشمل أمته وفق القاعدة المشهورة (خطاب الرسول خطاب لأمته).

(هو) يُسمّى ضمير الشأن، ويستعمل في اللغة لأمر يراد منه التعظيم أو الاختصاص، ويكون موضع الاهتمام بالجملة التي بعده، والشأن هنا (الله أحد).[3]

(الله) لفظ الجلالة، وهو اسم علم وليس معرفاً للفظ الإله.

 (أحد): الواحد، الذي لا شبيه له، ولا نظير ولا شريك.[4]

والمعنى أن الله سبحانه منفرد بالخلق والألوهية رداً على المشركين من الوثنيين والنصارى القائلين بالتثليث، والمجوس الثانوية؛ فتعدد الآلهة مستحيل عقلاً وواقعاً، ويشهد لذلك نظام الكون، وهو ما يشير إليه قوله تعالى ( لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا ) ]الأنبياء:22[.

 

(اللَّهُ الصَّمَدُ )

{ الصَّمَدُ }: الدائم والمُحتاج إليه.[5]

ومعنى الصمد في اللغة هو المقصود فى الحوائج والمطالِب والنوازل.[6] وجاء في تفسير الإمام الشوكاني: "هو الذي يصمد إليه في الحاجات، أي: يُقصَد لكونه قادراً على قضائها". ونقل الإمام القرطبي والإمام ابن كثير عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قوله: "يعني: الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم".

 

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ )

{ لَمْ يَلِدْ} أي لم يتخذ ولداً؛ لأن ذلك يقتضي زيادة بعد نقصان وهو سبحانه مستغن عن الولد، فمن احتاج للولد فهو ناقص، ومن يلِد فهو زائل وفان.[7]، وأيضاً يلزم أن تكون له صاحبة، أي مماثلة ومجانسة، وهو ما أبطله سبحانه في سورة الأنعام بقوله ( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَـٰحِبَةٌ ) [الأنعام: 101]. وفي هذه الآية رد مفحم بأسلوب السؤال الاستنكاري الذي يضطر الخصم إلى الإقرار ببطلان زعمه بنفسه؛ فالتوالد من صفة المخلوقات من إنسان وحيوان وطير، وهو لا يكون إلا بزوجين. أي أنكم تقرون أنه تعالى ليس له صاحبة، فكيف تنسبون له الولد؟ فتزعمون أمراً تقرون بنقيضه أو انعدام مقتضاه وهو مناف لبديهيات العقل ولا يليق بالعقلاء! (انظر ملحق رقم 2).

 

{ ولَمْ يُولَدْ } فهو ليس بمحدث؛ لأنه يقتضي وجودا بعد عدم، والمولود مُحدث أي وُجد بعد أن لم يكن، والمولود هو أيضاً محتاج؛ لكونه يستند في وجوده إلى غيره.

وصفة الولادة أياً كانت تحتّم المحدودية؛ حيث إن كل والد ومولود له جسم يجعله محدوداً في زمن وجوده، ومكان وجوده، وقدراته الحسية وجميع صفاته. كما أن من شأن الكائنات المتوالدة أن يعتريها التغيّر من حال إلى حال، فمن يلِد يعتريه التمدّد والزيادة ثم الضعف والهرم والفناء، وكذلك من يولد يعتريه النمو والقوة ثم الضعف فالهرم والفناء. وعليه يستحيل على من اتصف بصفة الولادة - بما تقتضيه من نقص واحتياج وحدوث وتغيّر - أن يكون خالقاً أزلياً لكونه محدود في وجوده زماناً ومكاناً، في الحيّز وفي القدرات، وذلك كله مستحيل في حق الله سبحانه؛ لاتصافه بصفات الكمال المطلق. وبهذا أعلمهم سبحانه أنه منزّه عن صفات النقص التي تتصف بها المخلوقات، فهو أحد صمد، منزّه عن النقص والاحتياج والحدوث، أزليّ ليس قبله شيء، وأبدي ليس بعده شيء، لا مثيل له ولا نظير ولا شريك، سبحانه وتعالى عما يصفون علواً كبيراً.

 

قال الإمام القرطبي: "وقال ابن عباس: { لَمْ يَلِدْ } كما وَلَدَتْ مَرْيَم، ولم يُولد كما وُلِدَ عيسى وعُزَيرٌ. وهو ردّ على النصارى، وعلى من قال: عُزيرٌ ابن الله (أي اليهود)." وأورد الإمام الشوكاني في تفسيره عن قتادة قوله: "إن مشركي العرب قالوا: الملائكة بنات الله. وقالت اليهود: عزير ابن الله. وقالت النصارى: المسيح ابن الله، فأكذبهم الله فقال: { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ }". وروى الإمام ابن كثير في تفسيره عن عكرمة أنه قال: "لما قالت اليهود: نحن نعبد عزيراً ابن الله، وقالت النصارى: نحن نعبد المسيح ابن الله، وقالت المجوس: نحن نعبد الشمس والقمر، وقالت المشركون: نحن نعبد الأوثان، أنزل الله على رسوله: { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ }".

 

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ )

الكفو: المثل والنظير.[8] والمعنى: لم يكن له مِثلاً أحد، وهو قول ابن عباس وأبيّ بن كعب وعطاء.[9]

قال الإمام الشوكاني: "{ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } هذه الجملة مقرّرة لمضمون ما قبلها؛ لأنه سبحانه إذا كان متصفاً بالصفات المتقدمة كان متصفاً بكونه لم يكافئه أحد، ولا يماثله ولا يشاركه في شيء".

وأورد الإمام ابن كثير عن مجاهد قوله: "{ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } يعني: لا صاحبة له، وهذا كما قال تعالى: ( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَـٰحِبَةٌ ) ]الأنعام:101[. والأول هو الراجح، وهو قول جمهور المفسرين، وذلك لأن معنى الكفؤ في اللغة[10] هو المثيل والنظير، والشرع لم يأت لها بمعنى اصطلاحي آخر فوجب اعتماد المعنى اللغوي كما هو مقرر في علم التفسير لقوله تعالى ( إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ]يوسف:2[.

وجاء في صحيح البخاري حول معاني السورة أن النبي قال: (لا أَحَد أَصْبَر عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّه يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ يَرْزُقهُمْ وَيُعَافِيهِمْ). وأخرج البخاري عن أبي هريرة عن النبي  قال: (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ).

 

ج- سبب النزول:

ورد في سبب نزول هذه السورة أنها جاءت ردّاً على سؤال اليهود والنصارى لرسول الله  حيث قالوا: يا محمد، صف لنا ربك. وروي أن المشركين أرسلوا عامر بن الطفيل إلى رسول الله فقالوا: قل له شققت عصانا وسببت آلهتنا وخالفت دين آبائك، فإن كنت فقيراً أغنيناك، وإن كنت مجنوناً داويناك، وإن هويت امرأة زوجناكها، فقال رسول الله: (لَسْتُ بِفَقِيرٍ وَلا مَجْنُونٍ وَلا هَوَيْتُ امْرَأَةً، أَنَا رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ، أَدْعُوكُمْ مِنْ عِبَادَة الأَصْنَامِ إِلَى عِبَادَتِهِ)، أرسلوه ثانية وقالوا له: قل له بيّن لنا جنس معبودك، فأنزل الله هذه السورة.[11]

 

وهذه عادة رؤوس الكفر في كل زمان ومكان؛ يظنّون أن رسل الله ودعاة الإسلام يبتغون بدعوتهم غرضاً مادياً من مال هالك، أو منصب زائل، أو شهوة عابرة. ولذلك تراهم يساومون حملة الدعوة الإسلامية على دعوتهم ويقدمون لهم الإغراءات المادية؛ لصرفهم عن منهجهم وقضيتهم وغايتهم. وهذه الإغراءات والمنح لا تقل خطورة عن التعذيب والمحن، بل قد تكون أشد خطورة؛ لما فيها من فتنة خفية، فالتعذيب والمحن قد استعدّ له الرسل وأتباعهم، وحملة الدعوة من بعدهم، بينما تأتي الإغراءات على حين غفلة، دون توقع أو استعداد، أو بعد طول شظف وإجهاد، فتجد لها وقعاً في النفوس بحجة "المصلحة" و"الحكمة" بعد طول إرهاق وتضحيات ونصب. وقد بلغ من خطورة هذه القضية، أن أنزل الله سبحانه على نبيه الكريم آيات فيها وعيدٌ شديدٌ لمن تسوّل له نفسه الركون إلى أعداء الإسلام ومساومتهم على دعوة الحق، أو التنازل لهم عما يكرهون من عقائد وتشريعات تشكل خطراً على كيانهم أو سلطانهم أو مصالحهم، قال تعالى ( وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ، وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ، وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ، إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ، ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) ]الإسراء:73-75[. (انظر ملحق رقم 3).

 

د- المعنى الإجمالي:

سورة الإخلاص هي بمثابة إعلان للوحدانية في بداية بعثة الرسول  برسالة الإسلام، وهي جاءت في عصر علت فيه رايات الشرك في جزيرة العرب وبلاد فارس والروم وسائر الأمم. والمعنى من إعلان الوحدانية هو دعوة الناس إلى نبذ ما يعبدون ويقدّسون من دون الله من الأوثان والآباء من أصنام الحجر والبشر. فالله أحدٌ في كل صفاته، في قدرته وأزليته، وعلمه وحكمته، لا يمكن أن يقبل الشركة، حتى ولو كان الشريك ملكاً مقرّباً، أو نبيّاً مرسلاً، أو وليّاً صالحاً.

أما معنى الصمدية فهو دعوة الناس إلى الالتجاء إلى الله وحده، وعدم الالتجاء إلى غيره من المخلوقات والعباد؛ لكونهم لا يملكون نفعاً ولا ضراً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً، بل هم أنفسهم محتاجون لمن يصرف عنهم السوء ويقضي لهم حوائجهم، وكيف ينصرف الناس في تقديسهم وعبادتهم عن الخالق المستغني إلى من يتساوى معهم في صفات النقص والعجز والاحتياج من الجمادات والبشر؟ قال تعالى: ( مَا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ، وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ) ]المائدة:75[.

وحُقّ لسورة الإخلاص أن تعدل ثلث القرآن، رغم قصر السورة وآياتها الموجزة، فقد احتوت هذه الآيات المعدودة جوهر العقيدة الإسلامية بأساسها العقلي القاطع الدامغ. وكما أشار علماء التفسير فإن آيات القرآن تدور حول ثلاثة محاور: هي العقائد، والأحكام، والقصص. قال الإمام البيضاوي في تفسيره: "جاء في الحديث أنها تعدل ثلث القرآن، فإن مقاصده محصورة في بيان العقائد والأحكام والقصص".

وإذا تمعنّا في سورة الإخلاص نجد أنها تضمنت إثباتيْن ونفييْن:

1.إثبات الوحدانية، ونفي الشريك، (قل هو الله أحد).

2.إثبات الاستغناء، ونفي الاحتياج، (الله الصمد).

3.نفي المحدودية، (لم يلد ولم يولد).

4.نفي المثيل، (ولم يكن له كفواً أحد).

 

هـ - فائدة:

إن توحيد الله في الاعتقاد توحيداً شاملاً، وترجمة هذا التوحيد عملياً في سلوك الأفراد وعلاقات المجتمع وشؤون الدولة إنما يكون بإفراد الله سبحانه في العبودية بتلقي التشريع، أي التحليل والتحريم، عن رسول الله  حصراً فيما بلّغنا إياه من قرآن كريم وسنة شريفة، قال تعالى ( وَهُوَ ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمآءِ إِلَـٰهٌ وَفِي ٱلأَرْضِ إِلَـٰهٌ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ ) ]الزخرف:8[.

والسورة على الأرجح مكية، وهي - كغيرها من السور المكية – تتمحور حول العقائد والتوحيد وجدال المشركين وغيرهم، بنقض عقائدهم، وتثبيت العقيدة الإسلامية بطريق الحجج العقلية والبراهين القائمة على الحس؛ ولذا، فعلى كل من يريد أن يحمل الدعوة الإسلامية اليوم، من أهل الفكر والعلم والدعوة، وخاصة الجماعات والأحزاب، أن يترسموا منهج القرآن، ويتأسّوا برسول الله  في طريقة حمله للدعوة الإسلامية في مكة، وفي المدينة،؛ حيث تعرّض لعقائد المجتمع ونقضها وبيّن زيفها، ولم يظهر تجاهها أية مجاملة أو مساومة أو مهادنة، كما يفعل الكثيرون اليوم، حيث يتنكب بعضهم عن مواجهة العلمانية مثلاً ببيان زيفها ومناقضتها للإسلام، بينما يقوم بعضهم الآخر بتزيينها، بل والمشاركة فيها وفي ملحقاتها من ديمقراطية ورأسمالية.

وهذه السورة وأمثالها من السور المكية؛ التي تدور معاني آياتها حول العقائد الصحيحة هي الركن الأول الذي انطلق منه رسول الله  في بناء شخصيات الصحابة الكرام- رضوان الله تعالى عليهم-، فنقّاهم من عقائد الشرك والوثنية، وركّز فيهم التوحيد والإخلاص فكراً وسلوكاً، عقيدة وعبادة.

وهي أيضاً الأساس الذي أقام عليه رسول الله  تكتل الصحابة الكرام، بعد أن صهرهم بمفاهيم الإسلام، وأزال عنهم روابط الجاهلية؛ ليتمكنوا من حمل الدعوة الإسلامية، والجهاد في سبيلها مهما تطلب ذلك من تضحيات.

وهي كذلك الأساس الذي أسّس عليه رسول الله-صلى الله عليه وسلم-  المجتمع الإسلامي بين الأوس والخزرج، والمهاجرين والأنصار؛ فجعل العقيدة الإسلامية وحدها عماد العلاقات في المجتمع، ومصدر التشريع في الأمة والدولة.

وهذه السورة وأمثالها، بما جاءت به من العقائد والأفكار الإسلامية، هي ذاتها الأصل الذي أقام عليه الرسول الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة؛ حيث جعل العقيدة الإسلامية أساساً للدولة، وجعل القرآن والسنة المصدر الوحيد للدستور والقوانين وسائر الأحكام والتشريعات.

المصدر