من ثورات شعبية إلى أزمات سياسية

7 يناير, 2016 - 23:41

خمس سنوات مرت منذ انطلقت طلائع من الشباب فى عدد من الدول العربية، كسرت حاجز الخوف والقهر، ورفعت شعارات ذات طابع ثوري في مواجهة نظم حكم، شمولية، قمعية، ظلت قابضة على زمام السلطة عقوداً، حتى ارتبطت تلك النظم بأسماء حكامها، حسني مبارك في مصر، زين العابدين بن علي في تونس، معمر القذافي في ليبيا، علي عبدالله صالح في اليمن، بشار الأسد في سورية. وعلى مدى بضعة أسابيع، امتدت من أواخر عام 2010 وحتى الربع الأول من العام 2011، تطورت حركة الجماهير فى الميادين والشوارع في شكل إرهاصات ثورات شعبية، رفعت شعارات العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، وبلورة مطالبها في .. الشعب يريد إسقاط النظام. في البداية، جاءت النتائج سريعة ومبهرة في الوقت نفسه. في تونس، خرج رأس النظام زين العابدين بن علي وأسرته هارباً في 14 يناير/كانون ثاني. وفي مصر، تخلى رأس النظام، حسني مبارك، عن منصبه، وسلم السلطة إلى القوات المسلحة ومجلسها الأعلى في 11 فبراير من العام نفسه، ثم تداعت الأحداث بوتيرة أبطأ. في ليبيا، جاءت نهاية القذافي مأساوية، حيث قُتل في مشهد دموي في 20 أكتوبر/تشرين أول 2011. وفي اليمن، لعبت المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي دوراً توفيقياً، سمح بمغادرة صالح السلطة بشكل آمن، وتسليمها لنائبه عبد ربه منصور هادي في 27 فبراير/شباط 2012، لإدارة مرحلة انتقالية، بينما بقي الأسد في سورية يواجه الحراك الثوري الشعبي بالقوة المسلحة. تلك كانت البدايات التي جعلت مراقبين في الغرب يطلقون على تلك الأحداث، في حينها، وصف الربيع العربي، فقد كان متوقعاً أن تمضي تلك الثورات الشعبية السلمية في طريقها إلى بناء الدولة الديموقراطية، المدنية، الحديثة التي يفرض فيها الشعب إرادته الحرة. للأسف الشديد، لم يتحقق شيء من ذلك، على الرغم من مرور خمس سنوات على تلك الانطلاقة المبهرة للربيع العربي وثوراته الشعبية، فلا دول ديموقراطية مدنية حديثة قامت، ولا حرية وعدالة اجتماعية تحققت. تعددت المسارات في الدول الخمس التي هبت عليها نسائم الربيع العربي، ولم تأت الرياح بما تشتهي السفن، بل جاءت الرياح لتأخذ سفينة كل دولة في مسار خاص، لا شأن له بالثورة وطموحاتها وشعاراتها. حوّلت تلك المسارات الثورات الشعبية التي تسعى إلى الحرية والكرامة الإنسانية إلى أزمات سياسية عنيفة، وصراعات عسكرية متعددة الأطراف، ومتعددة المستويات. ولعله من المفيد، في هذا السياق، أن نتذكّر، مع الفارق طبعاً، مسارات القضية الفلسطينية، والمآلات التي وصلت إليها، وكيف تحولت القضية من الصراع العربي الإسرائيلي إلى المشكلة الفلسطينية الإسرائيلية، وتحول شعار تحرير فلسطين إلى المطالبة بعودة إسرائيل إلى حدود 4 يونيو/حزيران 1967، ولم يعد العالم يتحدث عن القضية، إلا فى إطار العودة إلى مسار أوسلو، وعملية السلام، والتفاوض بين السلطة الفلسطينية والعدو الإسرائيلي، مع الإشارة، أحياناً، إلى ضرورة إيجاد حل لمشكلة حصار قطاع غزة. وهكذا تحولت قضية العرب (المركزية) من قضية أرض وشعب ومصير إلى مجرد أزمة سياسية تبحث عن حل فى أروقة ما يُعرف بالمجتمع الدولي، بمنظماته، وهيئاته، ولجانه، ومبعوثيه. وإذا كانت عملية تحويل قضية فلسطين من قضية وجود إلى مجرد قضية حدود، قد استغرقت أكثر من 60 عاماً، فإن عملية تحويل الربيع العربي من ثورات شعبية إلى أزمات سياسية لم تستغرق سوى خمس سنوات، انتقلت فيها طموحات الشعوب من "الشعب يريد إسقاط النظام" إلى المطالبة بوقف نزيف الدم، والحرية للمعتقلين، والإفصاح عن المختفين قسرياً، والحوار من أجل الوصول إلى الحلول الوسط برعاية دولية. وبعيداً عن نظريات المؤامرة، وفكرة أننا أمة مستهدفة من "الغرب الصليبي الاستعماري" فقط، علينا أن نرصد حصاد السنوات الخمس الماضية على أرض الواقع، وما آلت إليه "الثورة" في كل دولة من دول الربيع العربي. نبدأ بتونس التي انطلقت منها الشرارة الأولى، حيث تمكن فيها المجتمع المدني القوي من إحداث توافق بين مختلف القوى السياسية التقليدية التي نفضت يديها من بن علي، والقوى الإسلامية التى عادت إلى المشهد السياسي، وأدركت جيداً أبعاد الموقف الإقليمي والدولي وتوازناته، ومع تحييد المؤسسة العسكرية، لم تجد قوى اليسار والقوى الثورية الشابة بداً من القبول بمسار سياسي إصلاحي، توافق عليه الجميع ورحب به المجتمع الدولي، بل تم منح مجموعة الرباعية التي كانت عرابة ذلك التوافق جائزة نوبل للسلام. وفي مصر التي هي أيقونة الربيع العربي، بحكم المكان والمكانة، فبعد زخم ثوري استمر 18 يوماً، أذهل العالم

وصدّع أقوى النظم السلطوية فى العالم العربي على مدى 60 عاماً، انتهى الأمر يوم 11 فبراير بسقوط رأس النظام، ثم الدخول في مرحلة شديدة الاضطراب، وأيضاً شديدة الالتباس، وسارت الأمور في مسار غريب، فلا هو مسار ثوري، ولا هو مسار سياسي إصلاحي، وتقاطعت أهداف ومصالح كل القوى السياسية والفاعلة، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان المسلمين، وقوى أخرى متفرقة، إسلامية ويسارية وليبرالية. ومن دون الدخول في تفاصيل معروفة، انتهى الحال إلى ما انتهى إليه من نظام حكمٍ يستند على مؤسسات الدولة القديمة، والعميقة، مع تغيير الواجهات والديكورات، واللعب على كل المتناقضات الإقليمية والدولية بمهارة حتى الآن.
تبقى ثلاث دول، وهي التي تمثل النموذج الواضح لتحويل الثورات إلى أزمات وصراعات، بعد فشل الوصول بها إلى حالة من التوازن المرحلي، أو التسكين والتبريد، كما حدث في تونس ومصر. الدول الثلاث: سورية التى تحولت إلى ساحة صراع عسكري مفتوح بين كل القوى الدولية والإقليمية الفاعلة من أميركا الى روسيا، ومن تركيا إلى إيران، مع بقاء بشار الأسد وبقايا نظامه وشراذم جيشه، وتنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة والجيش الحر، وعشرات التنظيمات المسلحة. وتحوّلت سورية إلى أزمة، عينت لها الأمم المتحدة مبعوثاً، وأصدرت بشأنها قرارات دولية، ولم يعد أحد يذكر الثورة السورية.
ليبيا: انتهى القذافي وزمرته، ولكن لم تقم للثورة الليبية قائمة، ولم تأخذ مساراً ثورياً ولا إصلاحياً، بل تفرقت إلى شيع وقبائل وعشائر، وانقسمت إلى حكومتين ومجلسين في طرابلس وطبرق، إضافة إلى عناصر تنظيم الدولة، وغيرها من المليشيات. وأيضاً، تحولت إلى أزمة، عينت لها الأمم المتحدة مبعوثاً، واستصدرت لها قرارات دولية، ولم يعد أحد يتحدث عن الثورة الليبية.
أما اليمن الذي كان يوماً سعيداً، فقد نكص علي عبد الله صالح عن اتفاقه مع السعودية ومجلس التعاون الخليجي، وتحالف مع الحوثي، وانقلبوا على هادي وحكومته، وتدخلت الأمم المتحدة، وعينت مبعوثاً خاصاً، ثم تطورت الأمور، واستولى الحوثي على كامل السلطة، فتدخلت السعودية مباشرة وشكلت تحالفاْ عسكرياً، وأطلقت عملية عسكرية شاملة باسم عاصفة الحزم، بدأت في أواخر مارس/آذار 2015. وغيرت الأمم المتحدة مبعوثها، وأصدر مجلس الأمن قراراً آخر بشأن اليمن، ولا زال الصراع مفتوحاً والأزمة قائمة، الحوثي وصالح في صنعاء، وهادي في عدن، ولا أحد يتحدث عن ثورة اليمن.
مرة أخرى، لا نتحدث عن نظرية مؤامرة، ولا عن أمة عربية مستهدفة. ولكن، عن ثورات أطلقتها الشعوب، وضحت في سبيلها بآلاف الشهداء، وعشرات آلاف من المعتقلين، وملايين اللاجئين والنازحين. ولكن، هناك من أراد لها أن تسير في مسارات تحولها إلى مجرد أزمات وصراعات. متى تفيق الشعوب من حالة الإحباط التى أصابتها، وتعيد ثوراتها إلى مساراتها الصحيحة، لتبني الدولة الديموقراطية، المدنية، الحديثة.

المصدر