حديث السبت د. محمد بدي ابنو: هل يستحيل تصوّر سيناريو سوري مغاير؟

21 نوفمبر, 2015 - 17:25

هل يستحيل تصوّر سيناريو سوري مغاير رغم الإكراهات السّياسيّة الدّاخليّة والدّوليّة التي تبدي مثل هذا السّؤال “ساذجا”؟

ـ1ـ

هل هنالك إمكانيّة تصوّر سيناريو مغاير في مثل الحالة السّوريّة الراهنة، أي سيناريو يُمَكِّن من تغيير النّظام دون تدمير الدّولة ويمكّن باسم الشّرعيّة الشّعبيّة المستقلة عن كل انتماء جزئي من محاصرة الحاكم الأتوقراطي المتغول ويمكّن من التّضامن الوطنيّ في مواجهة التّدخّل الأجنبيّ ويمكن بشكل خاص من تقليص الثمن الإنساني الباهظ لما يجري راهنيا؟ الإكراهات السّياسيّة الدّاخليّة والدّوليّة تبدي مثل هذا السّؤال “ساذجا” ولا يتحلّى بالحدّ الأدنى من مستويات “الواقعيّة”. ومع ذلك فإنّ عدم القبول بمثل هذه المساءلة وعدم محاولة إيجاد إجابات بديلة يعنيان بداهةً أن تكون الاختيارات في مثل هذه الدّول هي فقط بين تأبيد الأنظمة الأوتوقراطيّة المتغوّلة أمنيّا والمدمِّرة حتّى لبنيتها ومشاريعها الذّاتيّة وبين تدمير الدّولة وتفتيتها بما يعنيه هذا التفتيت من عودة مرعبة للأطر الما قبل دّولتيّة ومن حرب دموية أهليّة كارثية محلّيّا وإقليميّا ومن هيمنة أجنبيّة تؤول إلى أَفْغَنَةِ المنطقة أو طلْبنتِها.

ـ2ـ

لا يبدو أنّ نموذج  الدّول العربيّة شبه الستالينية قد أُخْضِع بَعْدُ لتحليل كافٍ بما هو نمط خاصّ يجمع بين النموذجين البونبرتي اليعاقبيّ والستالينيّ السوفيتي وبين توظيف البنى التّقليديّة والطموح إلى خلق اقتصاد صناعيّ وشبه صناعيّ. فالمطابقة في هته الدّول بين قوّة الدّولة وقوّة النّظام بل والمطابقة بين قوّة النّظام وقوّة الحاكم، والتّوظيف الأمنيّ للانتماءات التّقليديّة آلت إلى أن تكون الانتماءات التّقليديّة لشخص الحاكم نفسه ـ انتماؤه الطّائفيّ أو القبليّ أو الجهويّ أو العرقيّ ـ أحد مرتكزات معادلة القوى السّلطويّة دون أن يعني ذلك طبعا أنّ هذه المعادلة يمكن أن تُختزل في هذا العامل. إلاّ أنّ التّرهّل التّدريجيّ لدولة المؤسّسات في صالح دولة الأفراد بل دولة الفرد قد مَنحَ شيئا فشيئا الانتماءات التّقليديّة مكانةً منافسة للمؤسّسات الدَّوْلَتِيَّة الحديثة إن لم تكن أصبحتْ بديلا عنها في بعض المستويات. وهو ما حوّل تدريجيّا سلطةَ الحزب ومؤسّساته أو سلطة الإيديولوجيا ومؤسّساتها إلى سلطة العائلة والقبيلة والطّائفة إلى آخره. وكما يحدث عادة فقد أنجبتْ هذه الأنظمة معارضاتٍ تشتركُ معها في البَنْيَنَة الذّهنيّة نفسها بما في ذلك ما يتعلق بتوظّيف الانتماءات التّقليديّة القبَليّة والطّائفيّة والعرقيّة والجهويّة في مواجهة النّظام الحاكم، ممّا حوّل شيئا فشيئا هذه الأُطُر إلى نوع من البُنى المُطْلَقِيَّة الّتي يتعامل انسجاما مع أسسها صراحة أو ضمنا النّظام ومعارضتُه التقليدية.

ـ3ـ

 وبقدر ما أنجبتْ هذه البِنية التّركيبيّة أنظمةً بالغة الشَّخْصَنَة فإنّها أنجبت أنظمة بوليسيّة عسيرة على المقاومة بالعمل السّياسيّ المدنيّ بما الأخير كذلك. بل إنّه لم يحدث أن تمّ إسقاط أيّ من الأنظمة العربية شبه الستالينيّة دون عاملين: أحدهما التّدخّل الأجنبيّ وثانيهما تدمير بُنى الدّولة. بمعنى آخر فإنّ هذه الأنظمة تماهتْ مع دولها حتّى أصبحت الدّولة الستالينيّة العربيّة مطابقة من جهة للنّظام الذي يحكمُها ومن جهة ثانية للحاكم الذي يصدر عن ـ أو يصدر عنْه ـ هذا النظام. فكاد يصبح مستحيلا إسقاط النّظام دون تدمير الدّولة أو هذا على الأقلّ ما حدث في العراق وفي ليبيا وبمستوى ما في الجزائر وهو ما يحدث الآن في سوريا.

ـ 4ـ

غير أن إسقاط الدّولة يعني بداهة تدخّل القوى العالميّة الّتي لها مصلحة ليس فقط في إسقاط النّظام وإنّما كذلك في تقويض بُنى الدّولة وهو ما يجعل قوى التّغيير في داخل هذه الدّول في مواجهة محنة سياسيّة وأخلاقيّة مغلقة المنافذ. ذلك أنّها في مواجهة أنظمتها تجد نفسها غير قادرة على فصل الدّولة عن النّظام وبالتّالي غير قادرة على مقاومة النّظام والدّفاع عن الدّولة تزامنيا. وتجد نفسها بشكل خاصّ أمام خيار التّدخّل “الغربيّ” المباشر أو غير المباشر  أو الإصرار على الدفاع عن دولة تماهت بمستوى كبير مع الحاكم ونظامه. وفضلا عن ذلك فإنّ قوى التّغيير الثورية العضويّة تجد نفسها مضطرّة إلى التّعامل مع معارضات تقليديّة هلامية تشترك مع النّظام في المنطلقات نفسها وفي الآليات المستنفرَة وفي نمط توظيف الانتماءات الجزئية. فالّذين يتمتّعون بحدّ أدنى من التّجربة داخل مؤسّسات الدّولة هم بطبيعة الأنظمة الأوتوقراطيّة مَن كانوا في مرحلة مِن المراحل جزءً من النّظام فتخلّى عنهم أو تخلوا عنه أو هما معا لأسباب لا تتعلّق غالبا بتناقض مبدئيّ أو مصلحي جذري وإنّما باصطدام منفعي عرضيّ. وحين تكون المعارضة التقليدية تحمل نفس القدرة على توظيف الانتماءات التّقليديّة القبَليّة والطّائفيّة والعرقيّة والجهويّة وتشترك مع النّظام في المنطلقات نفسها مثل الاستسهال الأخلاقي لاستخدام العنف والرّغبة في الاستفراد بالعلاقات الأجنبيّة أي بخوصصة السّيادة فإنّ أيّ مواجهة مع السّلطة تؤول غالبا إلى مواجهة مسلّحة حيث تمتنع طرق المواجهة السّلميّة وتؤول المواجهة المسلّحة نفسها إلى شكل من أشكال الحرب الأهليّة بين الانتماءات الجزئية التقليدية الّتي يوظّفُها كلّ من الطّرفين. كما تؤول في مستوى ثالث إلى صراع بين قوى أجنبيّة كلّ منها يستتبع أحد الطّرفين أو أحد الأطراف.

د. محمد بدي ابنو: مدير معهد الدراسات والأبحاث العليا في بروكسيل